الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } * { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }

انتقل مِن تحذير المخاطبين من الانخداع لوساوس بعض أهل الكتاب، إلى تحريضهم على تمام التَّقوى، لأنّ في ذلك زيادة صلاح لهم ورسوخاً لإيمانهم، وهو خطاب لأصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم ويَسري إلى جميع من يكون بعدهم. وهذه الآية أصل عظيم من أصول الأخلاق الإسلامية. والتَّقوى تقدّم تفسيرها عند قوله تعالى { هدى للمتقين }. وحاصلها امتثال الأمر، واجتناب المنهي عنه، في الأعمال الظَّاهرة، والنَّوايا الباطنة. وحقّ التقوى هو أن لا يكون فيها تقصير، وتظاهر بما ليس من عمله، وذلك هو معنى قوله تعالىفاتَّقوا الله ما استطعتم } التغابن 16 لأنّ الاستطاعة هي القدرة، والتَّقوى مقدورة للنَّاس. وبذلك لم يكن تعارض بين الآيتين، ولا نسخ، وقيل هاته منسوخة بقوله تعالى { فاتقوا اللَّه ما استطعتم } لأنّ هاته دلّت على تقوى كاملة كما فسَّرها ابن مسعود أن يطاع فلا يعصى، ويُشكر فلا يكفر، ويذكر فلا يُنْسى، ورووا أنّ هذه الآية لمَّا نزلت قالوا «يا رسول الله من يَقوىَ لهذا» فنزلت قوله تعالى { فاتَّقوا الله ما استطعتم } فنسَخَ هذه بناء على أنّ الأمر في الآيتين للوجوب، وعلى اختلاف المراد من التقويين. والحقّ أنّ هذا بيان لا نسخ، كما حقَّقه المحقِّقون، ولكن شا عند المتقدّمين إطلاق النَّسخ على ما يشمل البيان. والتُّقاة اسمُ مصدر. اتَّقى وأصله وُقَيَة ثمّ وُقَاة ثُمّ أبدلت الواو تاء تبعاً لإبدالها في الافتعال إبدالاً قصدوا منه الإدغام. كما تقدّم في قوله تعالىإلا أن تتقوا منهم تقاة } آل عمران 28. وقوله { ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } نهي عن أن يموتوا على حالة في الدِّين إلاّ على حالة الإسلام فمحطّ النَّهي هو القيد أعني المستثنى منه المحذوفَ والمستثنى وهو جملة الحال، لأنَّها استثناء من أحوال، وهذا المركّب مستعمل في غير معناه لأنَّه مستعمل في النَّهي عن مفارقة الدّين بالإسلام مدّة الحياة، وهو مجاز تمثيلي علاقته اللزوم، لما شاع بين النَّاس من أنّ ساعة الموت أمر غير معلوم كما قال الصدّيق
كُلّ امرىءٍ مصبَّح في أهلِهِ والموتُ أدنى من شراك نَعْلِه   
فالنهي عن الموت على غير الإسلام يستلزم النَّهي عن مفارقة الإسلام في سائر أحيان الحياة، ولو كان المراد به معناه الأصلي، لكان ترخيصاً في مفارقة الإسلام إلاّ عند حضور الموت،وهو معنى فاسد وقد تقدّم ذلك في قوله تعالى { ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون }. وقوله { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } ثَنَّى أمرهم بما فيه صلاح أنفسهم لأخراهم، بأمرهم بما فيه صلاح حالهم في دنياهم، وذلك بالاجتماع على هذا الدّين وعدم التَّفرّق ليكتسبوا باتّحادهم قوّة ونماء. والاعتصام افتعال من عَصَم وهو طلب ما يعصم أي يمنع. والحَبْل ما يشدّ به للارتقاء، أو التدلّي، أو للنَّجاة من غَرَق، أو نحوه، والكلام تمثيل لهيئة اجتماعهم والتفافهم على دين الله ووصاياه وعهوده بهيئة استمساك جماعة بحبل ألقى إليهم من مُنقذ لهم من غرق أو سقوط، وإضافة الحبل إلى الله قرينة هذا التَّمثيل.

السابقالتالي
2 3 4