الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }

لما نفى عنهم العلم بما تضمنه التمثيل من حقارة أصنامهم التي يعبدونها وقلة جدواها بقولهلو كانوا يعلمون } العنكبوت 41 المفيد أنهم لا يعلمون، أعقبه بإعلامهم بعلمه بدقائق أحوال تلك الأصنام على اختلافها واختلاف معتقدات القبائل التي عبدتها، وأن من آثار علمه بها ضرب ذلك المثل لحال من عبدوها وحالها أيضاً دفعاً بهم إلى أن يتهموا عقولهم وأن عليهم النظر من حقائق الأشياء تعريضاً بقصور علمهم كقوله تعالىوالله يعلم وأنتم لا تعلمون } البقرة 216، فهذا توقيف لهم على تفريطهم في علم حقائق الأمور التي عَلِمها الله وأبلغهم دلائلها النظرية ونظائرها التاريخية، وقربها إليهم بالتمثيلات الحسية فعموا وصموا عن هذا وذاك. و { ما } من قوله { ما تدعون } يجوز أن تكون نافية معلِّقة فعل { يعلم } عن العمل، وتكون { من } زائدة لتوكيد النفي، ومجرورها مفعول في المعنى لــــ { تدعون } ظهرت عليه حركة حرف الجر الزائد. ومعنى الكلام أن الله يعلم أنكم لا تدعون موجوداً ولكنكم تدعون أموراً عدمية، ففيه تحقير لأصنامهم بجعلها كالعدم لأنها خلو عن جميع الصفات اللائقة بالإلهية. فهي في بابها كالعدم فلما شابهت المعدومات في انتفاء الفائدة المزعومة لها استعمل لها التركيب الدال على نفي الوجود على طريقة التمثيلية. ولا يتوهم السامع أن المراد نفيُ أن يكونوا قد دعوا أولياء من دون الله، لأن سياق الكلام سابقه ولاحقه يأباه وهذا كقوله تعالىليست النصارى على شيء } في سورة البقرة 113، ولستم على شيء } في سورة المائدة 68، " وكقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن الكهان إنهم ليسوا بشيء " ، أي ليسوا بشيء فيما يدعونه من معرفة الغيب. وحاصل المعنى أن من علمه تعالى بأنها موجودات كالعدم ضرَبَ لها مثلاً ببيت العنكبوت ولعبدتها مثلاً بالعنكبوت الذي اتخذها، وعلى هذا الوجه فالكلام صريح في إبطال إلهية الأصنام وفي أنها كالعدم. ويجوز أن تكون { ما } استفهامية معلِّقة فعل { يعلم } عن العمل من باب قولهم علمت هل زيد قائم، أي علمت جوابه. و { من } بيانية لما في { ما } الاستفهامية من الإبهام، أي من شيء من المدعوات العديدة في الأمم. ففيه تعريض بأن المشركين لا يعلمون جواب سؤال السائل «ما تدعون من دون الله»، أي قد علم الله ذلك، ومن علمه بذلك أنه ضرب لهم المثل بالعنكبوت اتخذت بيتاً، وللمعبودات مثلاً ببيت العنكبوت، وأنتم لو سئلتم ما تدعون من دون الله، لتلعثمتم ولم تحيروا جواباً فإن شأن العقائد الباطلة والأفهام السقيمة أن لا يستطيع صاحبها بيانها بالقول وشرحها، لأنها لما كانت تتألف من تصديقات غير متلائمة لا يستطيع صاحبها تقريرها فلا يلبث قليلاً حتى يفتضح فاسد معتقده من تعذر إفصاحه عنه.

السابقالتالي
2