الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ }

لما جرى ذكر أهل مدين وقوم لوط أكملت القصص بالإشارة إلى عاد وثمود إذ قد عرف في القرآن اقتران هذه الأمم في نسق القصص. والواو عاطفة قصة على قصة. وانتصاب { عاداً } يجوز أن يكون بفعل مقدَّر يدل عليه السياق، تقديره وأهلكنا عاداً، لأن قوله تعالى آنفاًفأخذتهم الرجفة } العنكبوت 37 يدل على معنى الإهلاك، قاله الزجاج وتبعه الزمخشري. ومعلوم أنه إهلاك خاص من بطش الله تعالى، فظهر تقدير وأهلكنا عاداً. ويجوز أن يقدر فعل واذكر كما هو ظاهر ومقدر في كثير من قصص القرآن. ويجوز أن يكون معطوفاً على ضميرفأخذتهم الرجفة } العنكبوت 37 والتقدير وأخذت عاداً وثمودا. وعن الكسائي أنه منصوب بالعطف على { الذين من قبلهم } من قوله تعالىولقد فتنا الذين من قبلهم } العنكبوت 3. وهذا بعيد لطول بعد المعطوف عليه. والأظهر أن نجعله منصوباً بفعل تقديره وأخذنا يفسره قولهفكلاًّ أخذنا بذنبه } العنكبوت 40 لأن كلاً اسم يعم المذكورين فلما جاء منتصباً بــــ { أخذنا } تعين أن ما قبله منصوب بمثله وتنوين العوض الذي لحق كلاً هو الرابط وأصل نسج الكلام وعاداً وثموداً وقارون وفرعون الخ... كلهم أخذنا بذنبه. وجملة { وقد تبين لكم من مساكنهم } في موضع الحال أو هي معترضة. والمعنى تبين لكم من مشاهدة مساكنهم أنهم كانوا فيها فأهلكوا عن بكرة أبيهم. ومساكن عاد وثمود معروفة عند العرب ومنقولة بينهم أخبارها وأحوالها ويمرون عليها في أسفارهم إلى اليمن وإلى الشام. والضمير المستتر في { تبيّن } عائد إلى المصدر المأخوذ من الفعل المقدر، أي يتبين لكم إهلاكهم أو أخذنا إياهم. وجملة { وزين لهم الشيطان أعمالهم } معطوفة على جملة { وعاداً وثموداً }. والتزيين التحسين. والمراد زين لهم أعمالهم الشنيعة فأوهمهم بوسوسته أنها حسنة. وقد تقدم عند قوله تعالىكذلك زينا لكل أمة عملهم } في سورة الأنعام 108. والصد المنع عن عمل. و { السبيل } هنا ما يوصل إلى المطلوب الحق وهو السعادة الدائمة، فإن الشيطان بتسويله لهم كفرهم قد حرمهم من السعادة الأخروية فكأنه منعهم من سلوك طريق يبلغهم إلى المقر النافع. والاستبصار البصارة بالأمور، والسين والتاء للتأكيد مثل استجاب واستمسك واستبكر. والمعنى أنهم كانوا أهل بصائر، أي عقول فلا عذر لهم في صدهم عن السبيل. وفي هذه الجملة اقتضاء أن ضلال عاد كان ضلالاً ناشئاً عن فساد اعتقادهم وكفرهم المتأصل فيهم والموروث عن آبائهم وأنهم لم ينجوا من عذاب الله لأنهم كانوا يستطيعون النظر في دلائل الوحدانية وصدق رسلهم.