الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَتِ ٱمْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }

يدل الكلام على أن الذين انتشلوه جعلوه بين أيدي فرعون وامرأته فرقت له امرأة فرعون وصرفت فرعون عن قتله بعد أن هم به لأنه علم أن الطفل ليس من أبناء القبط بلون جلوته وملامح وجهه، وعلم أنه لم يكن حمله النيل من مكان بعيد لظهوره أنه لم يطل مكث تابوته في الماء ولا اضطرابه بكثرة التنقل، فعلم أن وقعه في التابوت لقصد إنجائه من الذبح. وكان ذلك وقت انتشاله من الماء وإخراجه من التابوت. وكانت امرأة فرعون امرأة ملهمة للخير وقدّر الله نجاة موسى بسببها. وقد قال الله تعالى في شأنهاوضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجِّني من فرعون وعمله ونجِّني من القوم الظالمين } التحريم 11، وهي لم تر عداوة موسى لآل فرعون ولا حزنت منه لأنها انقرضت قبل بعثة موسى. و { امرأة فرعون } سميت آسية كما في الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران وآسية امرأة فرعون " ويفيد قولها ذلك أن فرعون حين رآه استحسنه ثم خالجه الخوف من عاقبة أمره فلذلك أنذرته امرأته بقولها { قرة عين لي ولك لا تقتلوه }. وارتفع { قرة عين } على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذا الطفل. وحذفه لأنه دل عليه حضوره بين أيديهم وهو على حذف مضاف، أي هو سبب قرة عين لي ولك. وقرة العين كناية عن السرور وهي كناية ناشئة عن ضدها وهو سُخْنة العين التي هي أثر البكاء اللازم للأسف والحزن، فلما كُني عن الحزن بسخنة العين في قولهم في الدعاء بالسوء أسخن الله عينه. وقول الراجز
أوه أديم عرضه وأسخن بعينه بعد هجوع الأعين   
أتبعوا ذلك بأن كنّوا عن السرور بضد هذه الكناية فقالوا قرة عين، وأقر الله عينه، فحكى القرآن ما في لغة امرأة فرعون من دلالة على معنى المسرّة الحاصلة للنفس ببليغ ما كنّى به العرب عن ذلك وهو { قرة عين } ، ومن لطائفه في الآية أن المسرة المعنية هي مسرة حاصلة من مرأى محاسن الطفل كما قال تعالىوألقيت عليك محبة مني } طه 39. ويجوز أن يكون قوله { قرة عين } قسماً كما يقال أيمن الله. فإن العرب يقسمون بذلك، أي أقسم بما تقرّ به عيني. وفي الحديث الصحيح أن أبا بكر الصديق استضاف نفراً وتأخر عن وقت عشائهم ثم حضر، وفيه قصة إلى أن قال الراوي فجعلوا لا يأكلون لقمة إلا ربت من أسفلها أكثر منها. فقال أبو بكر لامرأته يا أخت بني فراس ما هذا؟ فقالت وقُرّة عيني إنها الآن أكثر من قبل.

السابقالتالي
2