الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَصْبَحَ ٱلَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِٱلأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلاۤ أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلْكَافِرُونَ }

{ أصبح } هنا بمعنى صار. و الأمس مستعمل في مطلق زمن مضى قريباً على طريقة المجاز المرسل. و مكان مستعمل مجازاً في الحالة المستقر فيها صاحبها، وقد يعبر عن الحالة أيضاً بالمنزلة. ومعنى { يقولون } أنهم يجهرون بذلك ندامة على ما تمنوه ورجوعاً إلى التفويض لحكمة الله فيما يختاره لمن يشاء من عباده. وحكي مضمون مقالاتهم بقوله تعالى { ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء } الآية. وكلمة { ويكأن } عند الأخفش وقطرب مركبة من ثلاث كلمات وي وكاف الخطاب و أن. فأما وي فهي اسم فعل بمعنى أعجب، وأما الكاف فهي لتوجيه الخطاب تنبيهاً عليه مثل الكاف اللاحقة لأسماء الإشارة، وأما أن فهي أن المفتوحة الهمزة أخت إن المكسورة الهمزة فما بعدها في تأويل مصدر هو المتعجب منه فيقدر لها حرف جرّ ملتزم حذفه لكثرة استعماله وكان حذفه مع أن جائزاً فصار في هذا التركيب واجباً وهذا الحرف هو اللام أو من فالتقدير أعجب يا هذا من بسط الله الرزق لمن يشاء. وكل كلمة من هذه الكلمات الثلاث تستعمل بدون الأخرى فيقال وي بمعنى أعجب، ويقال ويك بمعناه أيضاً قال عنترة
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها قيل الفوارس ويك عنتر أقدم   
ويقال { ويكأن } ، كما في هذه الآية وقول سعيد بن زيد أو نبيه بن الحجاج السهمي
ويكأن من يكن له نشبٌ يُحــــ بَبْ ومن يفتقر يعش عيش ضرّ   
فخفّف أن وكتبوها متصلة لأنها جرت على الألسن كذلك في كثير الكلام فلم يتحققوا أصل تركيبها وكان القياس أن تكتب ويك مفصولة عن أن وقد وجدوها مكتوبة مفصولة في بيت سعيد بن زيد. وذهب الخليل ويونس وسيبويه والجوهري والزمخشري إلى أنها مركبة من كلمتين وي وكأن التي للتشبيه. والمعنى التعجب من الأمر وأنه يشبه أن يكون كذا والتشبيه مستعمل في الظن واليقين. والمعنى أما تعجب كأن الله يبسط الرزق. وذهب أبو عمرو بن العلاء والكسائي والليث وثعلب ونسبه في «الكشاف» إلى الكوفيين وأبو عمرو بصري أنها مركبة من أربع كلمات كلمة ويل وكاف الخطاب وفعل اعلم و أن. وأصله ويلك أعلم أنه كذا، فحذف لام الويل وحذف فعل اعلم فصار وَيْكَأنّه. وكتابتها متصلة على هذا الوجه متعينة لأنها صارت رمزاً لمجموع كلماته فكانت مثل النحت. ولاختلاف هذه التقادير اختلفوا في الوقف فالجمهور يقفون على { ويكأنه } بتمامه والبعض يقف على وي والبعض يقف على ويك. ومعنى الآية على الأقوال كلها أن الذين كانوا يتمنون منزلة قارون ندموا على تمنيهم لما رأوا سوء عاقبته وامتلكهم العجب من تلك القصة ومن خفي تصرفات الله تعالى في خلقه وعلموا وجوب الرضى بما قدر للناس من الرزق فخاطب بعضهم بعضاً بذلك وأعلنوه.

السابقالتالي
2