الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } * { وَهُوَ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلأُولَىٰ وَٱلآخِرَةِ وَلَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

عطف علىوربك يخلق ما يشاء ويختار } القصص 68 أي هو خالقهم ومركبهم على النظام الذي تصدر عنه الأفعال والاعتقادات فيكونون مستعدين لقبول الخير والشر وتغليب أحدهما على الآخر اعتقاداً وعملاً، وهو يعلم ما تخفيه صدورهم، أي نفوسهم وما يعلنونه من أقوالهم وأفعالهم. فضمير { صدورهم } عائد إلى { ما } من قولهيخلق ما يشاء } القصص 68 باعتبار معناها، أي ما تكنّ صدور المخلوقات وما يعلنون. وحيث أجريت عليهم ضمائر العقلاء فقد تعين أن المقصود البشر من المخلوقات وهم المقصود من العموم فيما يشاء } القصص 68 فبحسب ما يعلم منهم يختارهم ويجازيهم فحصل بهذا إيماء إلى علة الاختيار وإلى الوعد والوعيد. وهذا منتهى الإيجاز. وفي إحضار الجلالة بعنوان { وربك } إيماء إلى أن مما تكنه صدورهم بغض محمد صلى الله عليه وسلم وتقدمما تُكِنُّ صدورهم وما يعلنون } آخر النمل 74. { وَهُوَ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلأُولَىٰ وَٱلآخِرَةِ وَلَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }. عطف على جملةوربك يخلق ما يشاء ويختار } القصص 68 الآية. والمقصود هو قوله { وله الحكم } وإنما قدم عليه ما هو دليل على أنه المنفرد بالحكم مع إدماج صفات عظمته الذاتية المقتضية افتقار الكل إليه. ولذلك ابتدئت الجملة بضمير الغائب ليعود إلى المتحدث عنه بجميع ما تقدم من قولهوكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها } القصص 58 إلى هنا، أي الموصوف بتلك الصفات العظيمة والفاعل لتلك الأفعال الجليلة. والمذكور بعنوانربك } القصص 69 هو المسمى الله اسماً جامعاً لجميع معاني الكمال. فضمير الغيبة مبتدأ واسم الجلالة خبره، أي فلا تلتبسوا فيه ولا تخطئوا بادعاء ما لا يليق باسمه. وقريب منه قولهفذلكم الله ربكم الحق } يونس 32. وقوله { لا إله إلا هو } خبر ثان عن ضمير الجلالة، وفي هذا الخبر الثاني زيادة تقرير لمدلول الخبر الأول فإن اسم الجلالة اختص بالدلالة على الإله الحق إلا أن المشركين حرفوا أو أثبتوا الإلهية للأصنام مع اعترافهم بأنها إلهية دون إلهية الله تعالى فكان من حق النظر أن يعلم أن لا إله إلا هو، فكان هذا إبطالاً للشرك بعد إبطاله بحكاية تلاشيه عن أهل ملته يوم القيامة بقولهوقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم } القصص 64. وأخبر عن اسم الجلالة خبراً ثانياً بقوله { له الحمد في الأولى والآخرة } وهو استدلال على انتفاء إلهية غيره بحجة أن الناس مؤمنهم وكافرهم لا يحمدون في الدنيا إلا الله فلا تسمع أحداً من المشركين يقول الحمد للعزى، مثلاً. فاللام في { له } للملك، أي لا يملك الحمد غيره، وتقديم المجرور لإفادة الاختصاص وهو اختصاص حقيقي. وتعريف { الحمد } تعريف الجنس المفيد للاستغراق، أي له كل حمد. و { الأولى } هي الدنيا وتخصيص الحمد به في الدنيا اختصاص لجنس الحمد به لأن حمد غيره مجاز كما تقدم في أول الفاتحة.

السابقالتالي
2