الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ }

عطف على جملةونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا } القصص 5، إذ الكل من أجزاء النبأ. وتتضمن هذه الجملة تفصيلاً لمجمل قوله { ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا } ، فإن الإرادة لما تعلقت بإنقاذ بني إسرائيل من الذل خلق الله المنقذ لهم. والوحي هنا وحي إلهام يوجد عنده من انشراح الصدر ما يحقق عندها أنه خاطر من الواردات الإلهية. فإن الإلهام الصادق يعرض للصالحين فيوقع في نفوسهم يقيناً ينبعثون به إلى عمل ما ألهموا إليه. وقد يكون هذا الوحي برؤيا صادقة رأتها. وأم موسى لم يعرف اسمها في كتب اليهود، وذكر المفسرون لها أسماء لا يوثق بصحتها. وقوله { أن أرضعيه } تفسير لــــ { أوحينا }. والأمر بإرضاعه يؤذن بجمل طويت وهي أن الله لما أراد ذلك قدّر أن يكون مظهر ما أراده هو الجنين الذي في بطن أم موسى ووضعته أمه، وخافت عليه اعتداء أنصار فرعون على وليدها وتحيرت في أمرها فألهمت أو أريت ما قصه الله هنا وفي مواضع أخرى. والإرضاع الذي أمرت به يتضمن أن أخفيه مدة ترضعه فيها فإذا خفت عليه أن يعرف خبره فألقيه في اليمّ. وإنما أمرها الله بإرضاعه لتقوى بُنيته بلبان أمه فإنه أسعد بالطفل في أول عمره من لبان غيرها، وليكون له من الرضاعة الأخيرة قبل إلقائه في اليمّ قوت يشد بنيته فيما بين قذفه في اليم وبين التقاط آل فرعون إياه وإيصاله إلى بيت فرعون وابتغاء المراضع ودلالة أخته إياهم على أمه إلى أن أُحضرت لإرضاعه فأرجع إليها بعد أن فارقها بعض يوم. وحكت كتب اليهود أن أم موسى خبأته ثلاثة أشهر ثم خافت أن يفشو أمره فوضعته في سفط مقيَّر وقذفته في النهر. وقد بشرها الله بما يزيل همها بأنه راده إليها وزاد على ذلك بما بشرها بما سيكون له من مقام كريم في الدنيا والآخرة بأنه { من المرسلين }. والظاهر أن هذا الوحي إليها كان عند ولادته وأنها أمرت بأن تلقيه في اليم عندما ترى دلائل المخافة من جواسيس فرعون وذلك ليكون إلقاؤه في اليم عند الضرورة دفعاً للضر المحقق بالضر المشكوك فيه ثم ألقي في يقينها بأنه لا بأس عليه. و { اليم } البحر وهو هنا نهر النيل الذي كان يشق مدينة فرعون حيث منازل بني إسرائيل. واليم في كلام العرب مرادف البحر، والبحر في كلامهم يطلق على الماء العظيم المستبحر، فالنهر العظيم يسمى بحراً قال تعالىوما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج } فاطر 12، فإن اليم من الأنهار. وقد كانت هذه الآية مثالاً من أمثلة دقائق الإعجاز القرآني فذكر عياض في «الشفاء» والقرطبي في «التفسير» يزيد أحدهما على الآخر عن الأصمعي أنه سمع جارية أعرابية تنشد

السابقالتالي
2