الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْلاۤ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }

هذا متصل بقولهلتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون } القصص 46، لأن الإنذار يكون بين يدي عذاب. و { لولا } الأولى حرف امتناع لوجود، أي انتفاء جوابها لأجل وجود شرطها وهو حرف يلزم الابتداء فالواقع بعده مبتدأ والخبر عن المبتدأ الواقع بعد { لولا } واجب الحذف وهو مقدر بكون عام. والمبتدأ هنا هو المصدر المنسبك من { أن } وفعل { تصيبهم } والتقدير لولا إصابتهم بمصيبة، وقد عقب الفعل المسبوك بمصدر بفعل آخر وهو { فيقولوا } ، فوجب أن يدخل هذا الفعل المعطوف في الانسباك بمصدر، وهو معطوف بفاء التعقيب. فهذا المعطوف هو المقصود مثل قوله تعالىأن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } البقرة 282 فالمقصود هو «أن تذكر إحداهما الأخرى». وإنما حيك نظم الكلام على هذا المنوال ولم يقل ولولا أن يقولوا ربنا الخ حين تصيبهم مصيبة إلى آخره، لنكتة الاهتمام بالتحذير من إصابة المصيبة فوضعت في موضع المبتدأ دون موضع الظرف لتساوي المبتدأ المقصود من جملة شرط { لولا } فيصبح هو وظرفه عمدتين في الكلام، فالتقدير هنا ولولا إصابتهم بمصيبة يعقبها قولهم { ربنا لولا أرسلت } الخ لما عبأنا بإرسالك إليهم لأنهم أهل عناد وتصميم على الكفر. فجواب { لولا } محذوف دل عليه ما تقدم من قولهوما كنت بجانب الغربي } إلى قولهلتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك } القصص 44 ـــ 46، أي ولكنا أعذرنا إليهم بإرسالك لنقطع معذرتهم. وجواب { لولا } محذوف دل عليه الكلام السابق، أي لولا الرحمة بهم بتذكيرهم وإنذارهم لكانوا مستحقين حلول المصيبة بهم. و { لولا } الثانية حرف تحضيض، أي هلا أرسلت إلينا قبل أن تأخذنا بعذاب فتصلح أحوالنا وأنت غني عن عذابنا. وانتصب { فنتبع } بأن مضمرة وجوباً في جواب التحضيض. وضمير { تصيبهم } عائد إلى القوم الذين لم يأتهم نذير من قبل. والمراد { بما قدمت أيديهم } ما سلف من الشرك. والمصيبة ما يصيب الإنسان، أي يحل به من الأحوال، وغلب اختصاصها بما يحل بالمرء من العقوبة والأذى. والباء في { بما قدمت أيديهم } للسببية، أي عقوبة كان سببها ما سبق على أعمالهم السيئة. والمراد بها هنا عذاب الدنيا بالاستئصال ونحوه، وتقدم عند قوله تعالىفكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم } في سورة النساء 62. وهي ما يجترجونه من الأعمال الفاحشة. وما قدمت أيديهم ما اعتقدوه من الإشراك وما عملوه من آثار الشرك. والأيدي مستعار للعقول المكتسبة لعقائد الكفر. فشبه الاعتقاد القلبي بفعل اليد تشبيه معقول بمحسوس. وهذه الآية تقتضي أن المشركين يستحقون العقاب بالمصائب في الدنيا ولو لم يأتهم رسول لأن أدلة وحدانية الله مستقرة في الفطرة ومع ذلك فإن رحمة الله أدركتهم فلم يصبهم بالمصائب حتى أرسل إليهم رسولاً.

السابقالتالي
2