الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ ٱلْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِيۤ أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ }

خفي اتصال هذا الاستدراك بالكلام الذي قبله وكيف يكون استدراكاً وتعقيباً للكلام الأول برفع ما يتوهم ثبوته. فبيانه أن قولهولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى } القصص 43 مسوق مساق إبطال تعجب المشركين من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم حين لم يسبقها رسالة رسول إلى آبائهم الأولين، كما علمت مما تقدم آنفاً، فذكرهم بأن الله أرسل موسى كذلك بعد فترة عظيمة، وأن الذين أرسل إليهم موسى أثاروا مثل هذه الشبهة فقالواما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين } القصص 36 فكما كانت رسالة موسى عليه السلام بعد فترة من الرسل كذلك كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فالمعنى فكان المشركون حقيقين بأن ينظروا رسالة محمد برسالة موسى ولكن الله أنشأ قروناً أي أمماً بين زمن موسى وزمنهم فتطاول الزمن فنسي المشركون رسالة موسى فقالواما سمعنا بهذا في الملة الآخرة } ص 7. وحذف بقية الدليل وهو تقدير فنسوا، للإيجاز لظهوره من قوله { فتطاول عليهم العمر } كما قال تعالى عن اليهود حين صاروا يحرفون الكلم عن مواضعهونسوا حظاً مما ذكروا به } المائدة 13، وقال عن النصارىأخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به } المائدة 14 وقال لأمة محمد صلى الله عليه وسلمولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم } الحديد 16، فضمير الجمع في قوله { عليهم } عائد إلى المشركين لا إلى القرون. فتبين أن الاستدراك متصل بقولهولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى } القصص 43 وأن ما بين ذلك وبين هذا استطراد. وهذا أحسن في بيان اتصال الاستدراك مما احتفل به صاحب «الكشاف». ولله دره في استشعاره، وشكر الله مبلغ جهده. وهو بهذا مخالف لموقع الاستدراكين الآتيين بعده من قوله { ولكنا كنا مرسلين } وقولهولكن رحمة من ربك } القصص 46. و { العمر } الأمد كقولهفقد لبثت فيكم عمراً من قبله } يونس 16. { وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِىۤ أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَـٰتِنَا وَلَكِنَّا مرسلين }. هذا تكرير للدليل بمثل آخر مثل ما في قولهوما كنت بجانب الغربي } القصص 44 أي ما كنت مع موسى في وقت التكليم ولا كنت في أهل مدين إذ جاءهم موسى وحدث بينه وبين شعيب ما قصصنا عليك. والثواء الإقامة. وضمير { عليهم } عائد إلى المشركين من أهل مكة لا إلى أهل مدْيَن لأن النبي صلى الله عليه وسلم يتلو آيات الله على المشركين. والمراد بالآيات، الآيات المتضمنة قصة موسى في أهل مدين من قولهولما توجه تلقاء مدين } إلى قولهفلما قضى موسى الأجل وسار بأهله } القصص 22 - 29. وبمثل هذا المعنى قال مقاتل وهو الذي يستقيم به نظم الكلام، ولو جعل الضمير عائداً إلى أهل مدين لكان أن يقال تشهد فيهم آياتنا.

السابقالتالي
2