الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا ٱلْلَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }

هذا الكلام متصل بقولهووقع القول عليهم بما ظلموا } النمل 85 أي بما أشركوا، فذكرهم بدلائل الوحدانية بذكر أظهر الآيات وأكثرها تكراراً على حواسهم وأجدرها بأن تكون مقنعة في ارعوائهم عن شركهم. وهي آية ملازمة لهم طول حياتهم تخطر ببالهم مرتين كل يوم على الأقل. وتلك هي آية اختلاف الليل والنهار الدالة على انفراده تعالى بالتصرف في هذا العالم فأصنامهم تخضع لمفعولها فتظلم ذواتهم في الليل وتنير في النهار، وفيها تذكير بتمثيل الموت والحياة بعده بسكون الليل وانبثاق النهار عقبه. والجملة معترضة بين جملةووقع القول عليهم } النمل 85 وجملةويوم ينفخ في الصور } النمل 87 ليتخلل الوعيد بالاستدلال فتكون الدعوة إلى الحق بالإرهاب تارة واستدعاء النظر تارة أخرى. والاستفهام مستعمل كناية عن التعجيب من حالهم لأنها لغرابتها تستلزم سؤال من يسأل عن عدم رؤيتهم فهذه علاقة أو مسوغ استعمال الاستفهام في التعجيب، وهي علاقة خفية أشار سعد الدين في «المطول» إلى عدم ظهورها وتصدى السيد الشريف إلى بيانها غاية البيان وأرجعها إلى المجاز المرسل فتأمله. والرؤية يجوز أن تكون قلبية وجملة { أنّا جعلنا } سادة مسد المفعولين، أي كيف لم يعلموا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً مع أن ذلك واضح الدلالة على هذا الجعل. واختير من أفعال العلم فعل الرؤية لشبه هذا العلم بالمعلومات المبصرة. ويجوز أن تكون الرؤية بصرية والمصدر المنسبك من الجملة مفعول الرؤية والمعنى كيف لم يبصروا جعل الليل للسكون والنهار للإبصار مع أن ذلك بمرأى من أبصارهم. والجعل مراد منه أثره وهو اضطرار الناس إلى السكون في الليل وإلى الانتشار في النهار. فجعلت رؤية أثر الجعل بمنزلة رؤية ذلك الجعل وهذا واسع في العربية أن يجعل الأثر محل المؤثر، والدال محل المدلول. قال النابغة
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي على وعل في ذي المطارة عاقل   
أي على مخافة وعل. والمبصر اسم فاعل أبصر بمعنى رأى. ووصف النهار بأنه مبصر من قبيل المجاز العقلي لأن نور النهار سبب الإبصار. ويجوز أن تكون الهمزة للتعدية من أبصره، إذا جعله باصراً. وجملة { إن في ذلك لآيات } تعليل للتعجيب من حالهم إذ لم يستدلوا باختلاف الليل والنهار على الوحدانية ولا على البعث. ووجه كون الآيات في ذلك كثيرة كما اقتضاه الجمع هو أن في نظام الليل آيات على الانفراد بخلق الشمس وخلق نورها الخارق للظلمات، وخلق الأرض، وخلق نظام دورانها اليومي تجاه أشعة الشمس وهي الدورة التي تكوّن الليل والنهار، وفي خلق طبع الإنسان بأن يتلقّى الظلمة بطلب السكون لما يعتري الأعصاب من الفتور دون بعض الدواب التي تنشط في الليل كالهوام والخفافيش وفي ذلك أيضاً دلالة على تعاقب الموت والحياة، فتلك آيات وفي كل آية منها دقائق ونظم عظيمة لو بسط القول فيها لأوعب مجلدات من العلوم.

السابقالتالي
2