الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَمَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ }

{ أم } منقطعة بمعنى بل للإضراب الانتقالي من غرض إلى غرض مع مراعاة وجود معنى الاستفهام أو لفظه بعدها لأن أم لا تفارق معنى الاستفهام. انتقل بهذا الإضراب من الاستفهام الحقيقي التهكمي إلى الاستفهام التقريري، ومن المقدمة الإجمالية وهي قولهءالله خير أم ما يشركون } النمل 59، إلى الغرض المقصود وهو الاستدلال. عدد الله الخيرات والمنافع من آثار رحمته ومن آثار قدرته. فهو استدلال مشوب بامتنان لأنه ذكرهم بخلق السموات والأرض فشمل ذلك كل الخلائق التي تحتوي عليها الأرض من الناس والعجماوات، فهو امتنان بنعمة إيجادهم وإيجاد ما به قوام شؤونهم في الحياة، وبسابق رحمته، كما عددها في موضع آخر عليهم بقولهالله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون } الروم 40. و { من } للاستفهام. وهي مبتدأ والخبر جملة { خلق السموات.. } الخ وهو استفهام تقريري على أن الله إله واحد لا شريك له، ولا تقدير في الكلام. وذهب الزمخشري وجميع متابعيه إلى أن من موصولة وأن خبرها محذوف دل عليه قوله فيما تقدمءالله خير } النمل 59 وأن بعد أم همزة استفهام محذوفة، والتقدير بل أمّن خلق السموات الخ خير أم ما تشركون. وهو تفسير لا داعي إليه ولا يناسب معنى الإضراب لأنه يكون من جملة الغرض الأول على ما فسر به في «الكشاف» فلا يجدر به إضراب الانتقال. فالاستفهام تقرير كما دل عليه قوله في نهايته في { أإله مع الله، } فهو تقرير لإثبات أن الخالق والمنبت والرازق هو الله، وهو مشوب بتوبيخ، فلذلك ذيل بقوله { بل هم قوم يعدلون } كما سيأتي، أي من غرض الدليل الإجمالي إلى التفصيل. والخطاب بــــ { لكم } موجه إلى المشركين للتعريض بأنهم ما شكروا نعمة الله. وذكر إنزال الماء لأنه من جملة ما خلقه الله، ولقطع شبهة أن يقولوا إن المنبت للشجر الذي فيه رزقنا هو الماء، اغتراراً بالسبب فبودروا بالتذكير بأن الله خلق الأسباب وهو خالق المسببات بإزالة الموانع والعوارض العارضة لتأثير الأسباب وبتوفير القوى الحاصلة في الأسباب، وتقدير المقادير المناسبة للانتفاع بالأسباب، فقد ينزل الماء بإفراط فيجرف الزرع والشجر أو يقتلهما، ولذلك جمع بين قوله { وأنزل } وقوله { فأنبتنا } تنبيهاً على إزالة الشبهة. ونون الجمع في { أنبتنا } إلتفات من الغيبة إلى الحضور. ومن لطائفه هنا التنصيص على أن المقصود إسناد الإنبات إليه لئلا ينصرف ضمير الغائب إلى الماء لأن التذكير بالمنبت الحقيقي الذي خلق الأسباب أليق بمقام التوبيخ على عدم رعايتهم نعمه. والإنبات تكوين النبات. والحدائق جمع حديقة وهي البستان والجنة التي فيها نخل وعنب. سميت حديقة لأنهم كانوا يحدقون بها حائطاً يمنع الداخل إليها صوناً للعنب لأنه ليس كالنخل الذي يعسر اجتناء ثمره لارتفاع شجره فهي بمعنى محدق بها.

السابقالتالي
2