الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } * { فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ } * { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوۤاْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } * { وَأَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ }

سمَّى الله تآمرهم مكراً لأنه كان تدبير ضُرّ في خفاءٍ. وأكد مكرهم بالمفعول المطلق للدلالة على قوته في جنس المكر، وتنوينه للتعظيم. والمكر الذي أسند إلى اسم الجلالة مكر مجازي. استعير لفظ المكر لمبادرة الله إياهم باستئصالهم قبل أن يتمكنوا من تبييت صالح وأهله، وتأخيره استئصالهم إلى الوقت الذي تآمروا فيه على قتل صالح لشَبَه فِعللِ الله ذلك بفعل الماكر في تأجيل فعل إلى وقت الحاجة، مع عدم إشعار من يُفعل به. وأُكد مكر الله وعُظّم كما أكد مكرهم وعُظّم، وذلك بما يناسب جنسه، فإن عذاب الله لا يدانيه عذاب الناس فعظيمه أعظم من كل ما يقدره الناس. والمراد بالمكر المسند إلى الجلالة هو ما دلت عليه جملة { إنا دمرناهم وقومهم أجمعين } الآية. وفي قوله { وهم لا يشعرون } تأكيد لاستعارة المكر لتقدير الاستئصال فليس في ذلك ترشيحٌ للاستعارة ولا تجريد. والخطاب في قوله { فانظر } للنبي صلى الله عليه وسلم واقترانه بفاء التفريع إيماء إلى أن الاعتبار بمكر الله بهم هو المقصود من سَوْق القصة تعريضاً بأن عاقبة أمره مع قريش أن يكفّ عنه كيدَهم وينصره عليهم، وفي ذلك تسلية له على ما يلاقيه من قومه. والنظر نظر قلبي، وقد علق عن المفعولين بالاستفهام. وقرأ الجمهور { إنا دمرناهم } بكسر الهمزة فتكون الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لما يثيره الاستفهام في قوله { كيف كان عاقبة مكرهم } من سؤال عن هذه الكيفية. والتأكيد للاهتمام بالخبر. وقرأه عاصم والكسائي ويعقوب وخلف بفتح الهمزة فيكون المصدر بدلاً من { عاقبة }. والتأكيد أيضاً للاهتمام. وضمير الغيبة في { دمرناهم } للرهط. وعطف قومهم عليهم لموافقة الجزاء للمجزيّ عليه لأنهم مكروا بصالح وأهلِه فدمّرهم الله وقومهم. والتدمير الإهلاك الشديد، وتقدم غير مرة منها في سورة الشعراء. والقصة تقدمت. وتقدم إنجاء صالح والذين آمنوا معه وذلك أن الله أوحى إليه أن يخرج ومن معه إلى أرض فلسطين حين أنذر قومه بتمتع ثلاثة أيام. وتفريع قوله { فتلك بيوتهم خاوية } على جملة { دمرناهم } لتفريع الإخبار. والإشارة منصرفة إلى معلوم غير مشاهد لأن تحققه يقوم مقام حضوره فإن ديار ثمود معلومة لجميع قريش وهي في طريقهم في ممرّهم إلى الشام. وانتصب { خاوية } على الحال. وعاملها ما في اسم الإشارة من معنى الفعل كقوله تعالىوهذا بعْلِي شيخاً } وقد تقدم في سورة هود 72. والخاوية الخالية، ومصدره الخَواء، أي فالبيوت باق بعضها في الجبال لا ساكن بها. والباء في بما ظلموا } للسببية، وما مصدرية، أي كان خَواؤها بسبب ظلمهم. والظلم الشرك وتكذيب رسولهم، فذلك ظلم في جانب الله لأنه اعتداء على حق وحدانيته، وظلم للرسول بتكذيبه وهو الصادق. ولما خص الله عملهم بوصف الظلم من بين عدة أحوال يشتمل عليها كفرهم كالفساد كان ذلك إشارة إلى أن للظلم أثراً في خراب بلادهم.

السابقالتالي
2