الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ إِنِّيۤ أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } * { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } * { أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ }

طويت أخبار كثيرة دل عليها ما بين الخبرين المذكورين من اقتضاء عدة أحداث، إذ التقدير فذهب الهدهد إلى سبأ فرمى بالكتاب فأبلغ الكتاب إلى الملكة وهي في مجلس ملكها فقرأته، قالت يأيها الملأ إلخ. وجملة { قالت } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن غرابة قصة إلقاء الكتاب إليها يثير سؤالاً عن شأنها حين بلَغها الكتاب. و { الملأ } الجماعة من أشراف القوم وهم أهل مجلسها. وظاهر قولها { ألقي إليّ } أن الكتاب سُلّم إليها دون حُضور أهل مجلسها. وتقدم غير مرة وذلك أن يكون نظام بَلاطها أن تسلم الرسائل إليها رأساً. والإلقاء تقدم آنفاً. ووصف الكتاب بالكريم ينصرف إلى نفاسته في جنسه كما تقدم عند قوله تعالىلهم مغفِرَة ورزق كريم } في سورة الأنفال 74 بأن كان نفيسَ الصحيفة نفيسَ التخطيط بهيجَ الشكل مستوفياً كل ما جرت عادة أمثالهم بالتأنق فيه. ومن ذلك أن يكون مختوماً، وقد قيل كرم الكتاب ختمه، ليكون ما في ضمنه خاصاً باطلاع من أُرسل إليه وهو يُطلع عليه من يشاء ويكتمه عمن يشاء. قال ابن العربي «الوصف بالكرم في الكتاب غاية الوصف ألا ترى إلى قوله تعالىإنه لقرآن كريم } الواقعة 77 وأهل الزمان يصفون الكِتاب بالخَطير، والأثير، والمبرور، فإن كان لملك قالوا العزيز، وأسقطوا الكريم غفلة وهو أفضلها خصلة». وأما ما يشتمل عليه الكتاب من المعاني فلم يكن محموداً عندها لأنها قالتإن الملوك إذا دَخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة } النمل 34. ثم قصَّت عليهم الكتاب حين قالت { إنه من سليمان وإنه } إلى آخره. فيحتمل أن يكون قد تُرجم لها قبل أن تخرج إلى مجلس مشُورتها، ويحتمل أن تكون عارفة بالعبرانية، ويحتمل أن يكون الكتاب مكتوباً بالعربية القحطانية، فإن عظمة ملك سليمان لا تخلو من كتَّاب عارفين بلغات الأمم المجاورة لمملكته، وكونه بلغته أظهر وأنسب بشعار الملوك، وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم للملوك باللغة العربية. أما الكلام المذكور في هذه الآية فهو ترجمة الكتاب إلى اللغة العربية الفصحى بتضمين دقائقه وخصوصيات اللغة التي أنشىء بها. وقوله { إنه من سليمان } هو من كلام الملكة ابتدأت به مخاطَبة أهل مشُورتها لإيقاظ أفهامهم إلى التدبر في مغزاه لأن اللائق بسليمان أن لا يقدِّم في كتابه شيئاً قبل اسم الله تعالى، وأن معرفة اسم سليمان تؤخذ من ختمه وهو خارج الكتاب فلذلك ابتدأت به أيضاً. والتأكيد بــــإنَّ في الموضعين يترجم عما في كلامهما باللغة السبائية من عبارات دالة على اهتمامها بمُرسل الكتاب وبما تضمنه الكتاب اهتماماً يؤدَّى مثله في العربية الفصحى بحرف التأكيد الذي يدل على الاهتمام في مقام لا شك فيه. وتكرير حرف إن بعد واو العطف إيماء إلى اختلاف المعطوف والمعطوف عليه بأن المراد بالمعطوف عليه ذاتُ الكتاب، والمرادَ بالمعطوف معناه وما اشتمل عليه، كما تقول إن فلاناً لحسن الطلعة وإنه لزكيّ.

السابقالتالي
2 3 4