الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ طسۤ تِلْكَ آيَاتُ ٱلْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ }

تقدم القول في أن الراجح أن هذه الحروف تعريض بالتحدّي بإعجاز القرآن وأنه مؤتلف من حروف كلامهم. وتقدم ما في أمثالها من المحامل التي حاولها كثير من المتأولين. ويجيء على اعتبار أن تلك الحروف مقتضبة من أسماء الله تعالى أن يقال في حروف هذه السورة ما روي عن ابن عباس أن طس مقتضب من طَاءِ اسمه تعالى اللطيف، ومن سين اسمه تعالى السميع. وأن المقصود القَسَم بهاذين الاسمين، أي واللطيفِ والسميعِ تلك آيات القرآن المبين. القول فيه كالقول في صدر سورة الشعراء وخالفت آية هذه السورة سابقتها بثلاثة أشياء بذكر اسم القرآن وبعطف { وكتاب } على { القرآن } وبتنكير { كتاب }. فأما ذكر اسم القرآن فلأنه علَم للكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز والهدي. وهذا العَلم يرادف الكتاب المعرَّف بلام العهد المجعول علماً بالغلبة على القرآن، إلا أن اسم القرآن أدخل في التعريف لأنه علم منقول. وأما الكتاب فعلَم بالغلبة، فالمراد بقوله { وكتاب مبين } القرآنُ أيضاً ولا وجه لتفسيره باللَّوح المحفوظ للتفصّي من إشكال عطف الشيء على نفسه لأن التفصي من ذلك حاصل بأنَّ عطفَ إحدى صفتين على أُخرى كثير في الكلام. ولما كان في كلّ من { القرآن } و { كتاب مبين } شائبة الوصف فالأول باشتقاقه من القراءة، والثاني بوصفه بــــ { مبين } ، كان عطف أحدهما على الآخر راجعاً إلى عطف الصفات بعضها على بعض، وإنما لم يؤت بالثاني بدَلاً، لأن العطف أعلق باستقلال كلا المتعاطفين بأنه مقصود في الكلام بخلاف البدل. ونظير هذه الآية آية سورة الحجر 1تلك آيات الكتاب وقرآنٍ مبين } فإن { قرآن } في تلك الآية في معنى عطف البيان من { الكتاب } ولكنه عُطف لقصد جمعهما بإضافة { آيات } إليهما. وإنما قدم في هذه الآية { القرآن } وعطف عليه { كتاب مبين } على عكس ما في طالعة سورة الحجر لأن المقام هنا مقام التنويه بالقرآن ومتبعيه المؤمنين، فلذلك وصف بأنههدى وبشرى للمؤمنين } النمل 2 أي بأنهم على هدى في الحال ومبشرون بحسن الاستقبال فكان الأهم هنا للوحي المشتمل على الآيات هو استحضاره باسمه العلم المنقول من مصدر القراءة لأن القراءة تناسب حال المؤمنين به والمتقبلين لآياته فهم يدرسونها، ولأجل ذلك أدخلت اللام للمح الأصل، تذكيراً بأنه مقروء مدروس. ثم عطف عليه { كتاب مبين } ليكون التنويه به جامعاً لعنوانيه ومستكملاً للدلالة بالتعريف على معنى الكمال في نوعه من المقروءات، والدلالة بالتنكير على معنى تفخيمه بين الكُتب كقوله تعالىمصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه } المائدة 48. وأما ما في أول سورة الحجر فهو مقام التحسير للكافرين من جراء إعراضهم عن الإسلام فناسب أن يبتدئوا باسم الكتاب المشتق من الكتابة دون القرآن لأنهم بمعزل عن قراءته ولكنه مكتوب، وحجة عليهم باقية على مر الزمان. وقد تقدم تفصيل ذلك في أول سورة الحجر، ولهذا عقب هنا ذكر { كتاب مبين } بالحالهدى وبشرى للمؤمنين } النمل 2. و { مبين } اسم فاعل إما من أبان القاصر بمعنى بان لأن وصفه بأنه بيّن واضح له حظ من التنويه به ما ليس من الوصف بأنه مُوضِّح مبين. فالمبين أفاد معنيين أحدهما أن شواهد صدقه وإعجازه وهديه لكل متأمل، وثانيهما أنه مرشد ومفصِّل.