الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي ٱلْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ } * { إِنَّ هَـٰؤُلاۤءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ } * { وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ } * { وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ }

ظاهر ترتيب الجمل يقتضي أن الفاء للتعقيب على جملةوأوحينا إلى موسى } الشعراء 52 وأن بين الجملتين محذوفاً تقديره فأسرى موسى وخرج بهم فأرسل فرعون حَاشرين، أي لما خرج بنو إسرائيل خشي فرعون أن ينتشروا في مدائن مصر فأرسل فرعون في المدائن شُرَطاً يحشرون الناس ليلْحقوا بني إسرائيل فيردُّوهم إلى المدينة قاعدة الملك. و { المدائن } جمع مدينة، أي البلد العظيم. ومدائن القطر المصري يومئذ كثيرة. منها مانوفرى أو منفيس هي اليوم ميت رهينة بالجيزة وتيبة أو طيبة هي بالأقصر وأبودو وتسمى اليوم العَرابة المدفونة، وابو وهي بو وهي ادنو، واون رميسي، وأرمنت وسنَى وهي أسناء وساورت وهي السيوط، وخمونو وهي الاشمونيين، وبامازيت وهي البهنسا، وخسوُو وهي سخا، وكاريينا وهي سد أبي قيرة، وسودو وهي الفيوم، وكويتي وهي قفط. والتعريف في { المدائن } للاستغراق، أي في مدائن القطر المصري، وهو استغراق عرفي، أي المدائن التي لحكم فرعون أو المظنون وقوعها قرب طريقهم. وكان فرعون وقومه لا يعلمون أين اتجه بنو إسرائيل فأراد أن يتعرض لهم في كل طريق يظن مرورهم به. وكان لا يدري لعلهم توجهوا صوبَ الشام، أو صوبَ الصحراء الغربية، وما كان يظن أنهم يقصدون شاطىء البحر الأحمر بحر «القلزم» وكان يومئذ يسمى بحر «سُوف». وجملة { إن هؤلاء لشرذمة قليلون } مقول لقول محذوف لأن { حاشرين } يتضمن معنى النداء، أي يقولون إن هؤلاء لَشِرْذِمة قليلون. والإشارة بــــ { هؤلاء } إلى حاضر في أذهان الناس لأن أمر بني إسرائيل قد شاع في أقطار مصر في تلك المدة التي بين جمع السحرة وبين خروج بني إسرائيل، وليست الإشارة للسحرة خاصة إذ لا يلتئم ذلك مع القصة. وفي اسم الإشارة إيماء إلى تحقير لشأنهم أكده التصريح بأنهم شرذمة قليلون. والشرذمة الطائفة القليلة من الناس، هكذا فسره المحققون من أئمة اللغة، فإتْباعه بوصف { قليلون } للتأكيد لدفع احتمال استعمالها في تحقير الشأن أو بالنسبة إلى جنود فرعون، فقد كان عدد بني إسرائيل الذين خرجوا ستمائة ألف، هكذا قال المفسرون، وهو موافق لما في سفر العدد من التوراة في الإصحاح السادس والعشرين. و { قليلون } خبر ثان عن اسم الإشارة، فهو وصف في المعنى لمدلول { هؤلاء } وليس وصفاً لشرذمة ولكنه مؤكد لمعناها، ولهذا جيء به بصيغة جمع السلامة الذي هو ليس من جموع الكثرة. وقليل إذا وصف به يجوز مطابقته لموصوفه كما هنا، ويجوز ملازمته الإفرادَ والتذكير كما قال السموأل أو الحارثي
وما ضرّنا أنا قَليل... البيت   
ونظيره في ذلك لفظ كثير وقد جمعهما قوله تعالىإذ يُريكهم الله في منامك قليلاً ولو أراكهم كثيراً لَفَشِلْتم } الأنفال 43. و«غائظون» اسم فاعل من غاظه الذي هو بمعنى أغاظه، أي جعله ذا غيظ.

السابقالتالي
2