الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ } * { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ } * { وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ } * { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱنتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ }

كان مما حوته كِنانةُ بهتان المشركين أن قالوا في النبي صلى الله عليه وسلم هو شاعر، فلما نَثلَتْ الآيات السابقة سِهام كنانتهم وكسرتها وكان منها قولهم هو كاهن، لم يبق إلا إبطالُ قولهم هو شاعر، وكان بين الكهانة والشعر جامع في خيال المشركين إذ كانوا يزعمون أن للشاعر شيطاناً يملي عليه الشعر وربما سموه الرَّئِيّ، فناسب أن يقارَن بين تزييف قولهم في القرآن هو شعر، وقولهم في النبي صلى الله عليه وسلم هو شاعر، وبين قولهم هو قول كاهن، كما قرن بينهما في قوله تعالىوما هو بقول شاعِر قليلاً ما تُؤمنون ولا بقولِ كاهن قليلاً ما تذّكّرون } الحاقة 41، 42 فعُطف هنا قوله { والشعراء يتبعهم الغاون } على جملةتنزل على كل أفّاك أثيم } الشعراء 222. ولمّا كان حال الشعراء في نفس الأمر مخالفاً لحال الكهان إذ لم يكن لملكة الشعر اتصال مّا بالنفوس الشيطانية وإنما كان ادعاء ذلك من اختلاق بعض الشعراء أشاعوه بين عامة العرب، اقتصرت الآية على نفي أن يكون الرسول شاعراً، وأن يكون القرآنُ شعراً. دون تعرض إلى أنه تنزيل الشياطين كما جاء في ذكر الكهانة. وقد كان نفر من الشعراء بمكة يهجون النبي صلى الله عليه وسلم وكان المشركون يُعْنَون بمجالسهم وسماعِ أقوالهم ويجتمع إليهم الأعراب خارج مكة يستمعون أشعارهم وأهاجيَهم، أدمجت الآية حال من يتَّبع الشعراء بحالهم تشويهاً للفريقين وتنفيراً منهما. ومن هؤلاء النضْر بن الحارث، وهبيرة بن أبي وهب ومُسافع بن عبد مناف، وأبو عَزة الجمحِي، وابن الزِّبَعْرَى، وأميةُ بن أبي الصَّلْت، وأبو سفيان ابن الحارث، وأمُّ جميل العوراء بنت حرب زوجُ أبي لهب التي لَقبها القرآنحمَّالة الحطب } المسد 4 وكانت شاعرة وهي التي قالت
مُذَمَّماً عَصَيْنا وأمرَه أبينا ودينَه قَلَيْنَا   
فكانت هذه الآية نفياً للشعر أن يكون من خُلُق النبي صلى الله عليه وسلم وذماً للشعراء الذين تصدوا لهجائه. فقوله { يتبعهم الغاوون } ذمّ لأتباعهم وهو يقتضي ذم المتبوعين بالأحرى. والغاوي المتصف بالغي والغواية، وهي الضلالة الشديدة، أي يتبعهم أهل الضلالة والبطالة الراغبون في الفسق والأذى. فقوله { يتبعهم الغاوون } خبر، وفيه كناية عن تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون منهم فإن أتباعه خيرة قومهم وليس فيهم أحد من الغاوين، فقد اشتملت هذه الجملة على تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم وتنزيه أصحابه وعلى ذم الشعراء وذمّ أتباعهم وتنزيه القرآن عن أن يكون شعراً. وتقديمُ المسند إليه على المسند الفعلي هنا يظهر أنه لمجرد التقوّي والاهتمام بالمسند إليه للفت السمع إليه والمقام مستغن عن الحصر لأنه إذا كانوا يتبعهم الغاوون فقد انتفى أتباعهم عن الصالحين لأن شأن المجالس أن يتحد أصحابها في النزعة كما قيل

السابقالتالي
2 3 4