الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ ٱلْوَاعِظِينَ } * { إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ خُلُقُ ٱلأَوَّلِينَ } * { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } * { فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ } * { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ }

أجابوا بتأييسه من أن يقبلوا إرشادَه فجعلوا وعظهُ وعدمه سواء، أي هما سواء في انتفاء ما قصده من وعظه وهو امتثالهم. والهمزة للتسوية. وتقدم بيانها عند قولهسواءٌ عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } في سورة البقرة 6. والوعظ التخويف والتحذير من شيء فيه ضر، والاسم الموعظة. وتقدم في قولهوهدى وموعظة للمتقين } في سورة العقود 46. ومعنى { أم لم تكن من الواعظين } أم لم تكن في عداد الموصوفين بالواعظين، أي لم تكن من أهل هذا الوصف في شيء، وهو أشدّ في نفي الصفة عنه من أن لو قيل أم لم تَعظ، كما تقدم في قوله تعالىقال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } في سورة البقرة 67، وقد تقدم بيانه عند قوله تعالىوما أنا من المهتدين } في سورة الأنعام 56، وتقدم آنفاً قوله في قصة نوحلتكونَنَّ من المرجومين } الشعراء 116. وجملة { إن هذا إلا خلق الأولين } تعليل لمضمون جملة { سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين } ، أي كان سواءً علينا فلا نتَّبع وعظَك لأن هذا خلق الأولين. والإشارة بــــ { هذا } إلى شيء معلوم للفريقين حاصل في مقام دعوة هود إياهم، وسيأتي بيانه. وقوله { خلق الأولين } قرأه نافع وابن كثير وابن عامر وحمزة وعاصم وخلَف بضم الخاء وضم اللام. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو والكسائي وأبو جعفر ويعقوبُ بفتح الخاء وسكون اللام. فعلى قراءة الفريق الأول { خُلُقُ } بضمتين، فهو السجية المتمكنة في النفس باعثة على عمل يناسبها من خير أو شر وقد فُسّر بالقوى النفسية، وهو تفسير قاصر فيشمل طبائع الخير وطبائع الشر، ولذلك لا يُعرَف أحدُ النوعين من اللفظ إلا بقيد يضم إليه فيقال خُلُق حسَن، ويقال في ضده سوء خُلُق، أو خُلُق ذميم، قال تعالىوإنك لعلى خُلُق عظيم } القلم 4. وفي الحديث " وخَالِقِ الناسَ بخُلُق حسن " فإذا أطلق عن التقييد انصرف إلى الخُلُق الحسن، كما قال الحريري في «المقامة التاسعة» «وخُلُقي نعم العَون، وبيني وبينَ جاراتي بَوْن» أي في حسن الخلق. والخلق في اصطلاح الحكماء ملكة أي كيفية راسخة في النفس أي متمكنة من الفكر تصدر بها عن النفس أفعال صاحبها بدون تأمل. فخلق المرء مجموع غرائز أي طبائع نفسية مؤتلفة من انطباع فكري إما جبليّ في أصل خلقته، وإما كسبي ناشىء عن تمرّن الفكر عليه وتقلُّده إياه لاستحسانه إياه عن تجربة نفعه أو عن تقليد ما يشاهده من بواعث محبة ما شاهد. وينبغي أن يسمى اختياراً من قول أو عمل لذاته، أو لكونه مِن سيرة من يُحبه ويقتدي به ويسمى تقليداً، ومحاولته تسمى تخلقاً. قال سالم بن وابصة
عليك بالقصيد فيما أنتَ فاعله إن التخلُّق يأتي دونَه الخُلُق   

السابقالتالي
2