الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً }

أتبع خصال المؤمنين الثلاث التي هي قِوام الإيمان بخصال أخرى من خصالهم هي من كمال الإيمان، والتخلق بفضائله، ومجانبة أحوال أهل الشرك. وتلك ثلاث خصال أولاها أفصح عنه قوله هنا { والذين لا يشهدون الزور } الآية. وفعل شهد يستعمل بمعنى حضر وهو أصل إطلاقه كقوله تعالىفمن شَهِد منكم الشهر فلْيَصُمْه } البقرة 185، ويستعمل بمعنى أخبر عن شيء شهده وعلمه كقوله تعالىوشَهد شاهد من أهلها } يوسف 26. والزور الباطل من قول أو فعل وقد غلب على الكذب. وقد تقدم في أول السورة فيجوز أن يكون معنى الآية أنهم لا يحضرون محاضر الباطل التي كان يحضرها المشركون وهي مجالس اللهو والغناء والغيبة ونحوها، وكذلك أعياد المشركين وألعابهم، فيكون الزور مفعولاً به لــــ { يشهدون }. وهذا ثناء على المؤمنين بمقاطعة المشركين وتجنبهم. فأما شهود مواطن عبادة الأصنام فذلك قد دخل في قولهوالذين لا يَدعون مع الله إلهاً آخر } الفرقان 68. وفي معنى هذه الآية قوله في سورة الأنعام 68وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسِيَنَّك الشيطانُ فلا تقْعُد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } ويجوز أن يكون فعل { يشهدون } بمعنى الإخبار عما علموه ويكون الزور منصوباً على نزع الخافض، أي لا يشهدون بالزور أو مفعولاً مطلقاً لبيان نوع الشهادة، أي لا يشهدون شهادة هي زور لا حَقٌ. وقوله { وإذا مروا باللغو مروا كراماً } مناسب لكلا الجملتين. واللغو الكلام العبث والسفه الذي لا خير فيه. وتقدم في قوله تعالىلا يسمعون فيها لغواً } في سورة مريم 62. ومعنى المرور به المرور بأصحابه اللاغين في حال لغوهم، فجعل المرور بنفس اللغو للإشارة إلى أن أصحاب اللغو متلبسون به وقت المرور. ومعنى { مروا كراماً } أنهم يمرون وهم في حال كرامة، أي غير متلبسين بالمشاركة في اللغو فيه فإن السفهاء إذا مروا بأصحاب اللغو أنِسُوا بهم ووقفوا عليهم وشاركوهم في لغوهم فإذا فعلوا ذلك كانوا في غير حال كرامة.ٍ والكرامة النزاهة ومحاسن الخلال، وضدها اللؤم والسفالة. وأصل الكرامة أنها نفاسة الشيء في نوعه قال تعالىأنبتنا فيها من كل زوج كريم } الشعراء 7. وقال بعض شعراء حمير في «الحماسة»
ولا يَخيم اللقاءَ فارسُهم حتى يشقَّ الصفوف مِن كَرمه   
أي شجاعته، وقال تعالىوأعد لهم أجراً كريماً } الأحزاب 44. وإذا مر أهل المروءَة على أصحاب اللغو تنزهوا عن مشاركتهم وتجاوزوا ناديهم فكانوا في حال كرامة، وهذا ثناء على المؤمنين بترفّعهم على ما كانوا عليه في الجاهلية كقوله تعالىوذرِ الذين اتّخذوا دينَهم لعباً ولهواً } الأنعام 70، وقولهوإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين } القصص 55. وإعادة فعل { مروا } لبناء الحال عليه، وذلك من محاسن الاستعمال، كقول الأحوص
فإذَا تزول تزولُ عن متخمّط تُخشى بوادره على الأقران   
ومنه قوله تعالىربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا } القصص 63 كما ذكره ابن جنّي في «شرح مشكل أبيات الحماسة»، وقد تقدم عند قوله تعالىصراط الذين أنعمت عليهم } الفاتحة 7.