الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ ٱلظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا ٱلشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً } * { ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً }

استئناف ابتدائي فيه انتقال من إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وإثبات أن القرآن من عند الله أنزله على رسوله، وصفات الرسل وما تخلل ذلك من الوعيد وهو من هذا الاعتبار متصل بقولهوقال الذين كفروا لولا نُزِّل عليه القرآن جملة واحدة } الفرقان 32 الآية. وفيه انتقال إلى الاستدلال على بطلان شركهم وإثبات الوحدانية لله وهو من هذه الجهة متصل بقوله في أول السورةواتخَذَوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً } الفرقان 3 الآية. وتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي أن الكلام متصل بنظيره من قوله تعالىقل أنزله الذي يعلم السرّ في السموات والأرض } الفرقان 6. وما عطف عليهقل أذلك خير } الفرقان 15وما أرسلنا قبلَك من المرسلين } الفرقان 20وكفى بربك هادياً } الفرقان 31 فكلها مخاطبات للنبي صلى الله عليه وسلم وقد جُعل مَدُّ الظل وقبْضُه تمثيلاً لحكمة التدريج في التكوينات الإلهية والعدول بها عن الطَفْرَة في الإيجاد ليكون هذا التمثيل بمنزلة كبرَى القياسسِ للتدليل على أن تنزيل القرآن منجَّماً جارٍ على حكمة التدرج لأنه أمكن في حصول المقصود، وذلك ما دل عليه قوله سابقاًكذلك لنُثَبّت به فؤادك } الفرقان 32. فكان في قوله { ألم تر إلى ربك كيف مدّ الظّل... } الآية زيادةٌ في التعليل على ما في قولهكذلك لِنُثبّت به فؤادك } الفرقان 32. ويستتبع هذا إيماءً إلى تمثيل نزول القرآن بظهور شمس في المواضع التي كانت مظلَّلة إذ قال تعالى { ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً } فإن حال الناس في الضلالة قبل نزول القرآن تشبَّه بحال امتداد ظلمة الظل، وصار ما كان مظلّلاً ضاحياً بالشمس وكان زوال ذلك الظل تدريجاً حتى ينعدم الفيء. فنظم الآية بما اشتمل عليه من التمثيل أفاد تمثيل هيئة تنزيل القرآن منجَّماً بهيئة مدّ الظل مدرّجاً ولو شاء لجعله ساكناً. وكان نظْمُها بحمله على حقيقة تركيبه مفيداً العبرة بمد الظل وقبضِه في إثبات دقائق قدرة الله تعالى، وهذان المُفادان من قبيل استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه الذي ذكرناه في المقدمة التاسعة. وكان نظم الكلام بمعنى ما فيه من الاستعارة التصريحية من تشبيه الهداية بنور الشمس، وتقلّص ضلال الكفر بانقباض الظل بعد أن كان مديداً قبل طلوع الشمس. وبهذه النكتة عُطف قوله { ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً } إلى قولهوجعل النهار نشوراً } الفرقان 47. والاستفهام تقريري فهو صالح لطبقات السامعين مِن غافل يُسأل عن غفلته ليُقِرَّ بها تحريضاً على النظر، ومِن جَاحد يُنكَر عليه إهماله النظر، ومن موفق يُحَثّ على زيادة النظر. والرؤية بصرية، وقد ضمن الفعل معنى النظر فعدّي إلى المرْئي بحرف إلى. والمدّ بسط الشيء المنقبض المتداخل يقال مد الحبل ومد يده، ويطلق المد على الزيادة في الشيء وهو استعارة شائعة، وهو هنا الزيادة في مقدار الظل.

السابقالتالي
2 3 4