الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ إِفْكٌ ٱفْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً }

انتقال من ذكر كفرهم في أفعالهم إلى ذكر كفرهم بأقوالهم الباطلة. والإظهار هنا لإفادة أن مضمون الصلة هو علة قولهم هذا، أي ما جرأهم على هذا البهتان إلا إشراكهم وتصلبهم فيه، وليس ذلك لشبهة تبعثهم على هذه المقالة لانتفاء شبهة ذلك، بخلاف ما حكي آنفاً من كفرهم بالله فإنهم تلقوه من آبائهم، فالوصف الذي أجري عليهم هنا مناسب لمقالتهم لأنها أصل كفرهم. وهذه الجملة مقابلة جملةتبارك الذي نزل الفرقان على عبده } الفرقان 1 فهي المقصود من افتتاح الكلام كما آذنت بذلك فاتحة السورة. وإنما أخرت هذه الجملة التي تقابل الجملة الأولى مع أن مقتضى ظاهر المقابلة أن تذكر هذه الجملة قبل جملةواتخذوا من دونه آلهة } الفرقان 3 اهتماماً بإبطال الكفر المتعلق بصفات الله كما تقدم آنفاً. والقصر المشتمل عليه كلامهم المستفاد من إنْ النافية وإلاّ قصر قلب زعموا به رد دعوى أن القرآن منزل من عند الله. وممن قال هذه المقابلة النضر بن الحارث، وعبد الله بن أمية، ونوفل بن خويلد. فإسناد هذا القول إلى جميع الكفار لأنه واقع بين ظهرانيهم وكلهم يتناقلونه. وهذه طريقة مألوفة في نسبة أمر إلى القبيلة كما يقال بنو أسد قتلوا حجراً. واسم الإشارة إلى القرآن حكاية لقولهم حين يسمعون آيات القرآن. والضمير المرفوع في { افتراه } عائد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم المعلوم من قولهعلى عبده } الفرقان 1. والإفك الكذب. وتقدم عند قوله تعالىإن الذين جاءو بالإفك } في سورة النور 11. والافتراء اختلاق الأخبار، أي ابتكارها وهو الكذب عن عمد، وتقدم في قولهولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } في سورة العقود 103. { وأعانه عليه } أي على ما يقوله من القرآن قوم آخرون لقنوه بعض ما يقوله، وأرادوا بالقوم الآخرين اليهود. روي هذا التفسير عن مجاهد وعن ابن عباس أشاروا إلى عبيد أربعة كانوا للعرب من الفرس وهم عدّاس مولى حويطب بن عبد العزى، ويسار أبو فكيهة الرومي مولى العلاء بن الحضرمي، وفي «سيرة ابن هشام» أنه مولى صفوان بن أمية بن محرِّث، وجبر مولى عامر. وكان هؤلاء من موالي قريش بمكة ممن دانوا بالنصرانية وكانوا يعرفون شيئاً من التوراة والإنجيل ثم أسلموا، وقد مر ذلك في سورة النحل، فزعم المشركون أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتردد إلى هؤلاء سراً ويستمد منهم أخبار ما في التوراة والإنجيل. والقصر المستفاد من قوله { إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون } متسلط على كلتا الجملتين، أي لا يخلو هذا القرآن من مجموع الأمرين، هما أن يكون افترى بعضه من نفسه، وأعانه قوم على بعضه. وفرع على حكاية قولهم هذا ظهور أنهم ارتكبوا بقولهم ظلماً وزوراً لأنهم حين قالوا ذلك ظهر أن قولهم زور وظلم لأنه اختلاق واعتداء.

السابقالتالي
2