الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ بِٱلْغَمَامِ وَنُزِّلَ ٱلْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً } * { ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى ٱلْكَافِرِينَ عَسِيراً }

عطف على جملةيوم يرون الملائكة } الفرقان 22. والمقصود تأييسهم من الانتفاع بأعمالهم وبآلهتهم وتأكيد وعيدهم. وأدمج في ذلك وصف بعض شؤون ذلك اليوم، وأنه يوم تنزيل الملائكة بمرأى من الناس. وأعيد لفظ { يَومَ } على طريقة الإظهار في مقام الإضمار وإن كان ذلك يوماً واحداً لبعد ما بين المعاد ومكان الضمير. والتشقق التفتح بين أجزاءٍ ملتئمة، ومنهإذا السماء انشقت } الانشقاق 1. ولعله انخراق يحصل في كُوَر تلك العوالم، والذين قالوا السموات لا تقبل الخرق ثم الالتئام بنوه على تخيّلهم إياها كقباب من معادن صُلبة، والحكماء لم يصلوا إلى حقيقتها حتى الآن. وتشقُّق السماءِ حالة عجيبة تظهر يوم القيامة، ومعناه زوال الحواجز والحدود التي كانت تمنع الملائكة من مبارحة سماواتهم إلا من يؤذن له بذلك، فاللام في الملائكة للاستغراق، أي بين جمع الملائكة فهو بمنزلة أن يقال يوم تفتح أبواب السماء. قال تعالىوفتحت السماء فكانت أبواباً } النبأ 19 على أن التشقّق يستعمل في معنى انجلاء النور كما قال النابغة
فانشق عنها عمود الصبح جافلة عَدْو النَّحُوص تخاف القَانِصَ اللَّحِما   
وحاصل المعنى أن هنالك انبثاقاً وانتفاقاً يقارنه نزول الملائكة لأن ذلك الانشقاق إذنٌ للملائكة بالحضور إلى موقع الحشر والحساب. والتعبير بالتنزيل يقتضي أن السموات التي تنشقّ عن الملائكة أعلى من مكان حضور الملائكة. وقرأ الجمهور { تشّقق } بتشديد الشين. وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف بتخفيف الشين. والغَمام السحاب الرقيق. وهو ما يغشى مكان الحساب، قال تعالىهل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظُلَل مِن الغَمام والملائكةُ وقُضِيَ الأمر } تقدم في سورة البقرة 210. والباء في قوله { بالغمام } قيل بمعنى عن أي تشقق عن غمام يحفّ بالملائكة. وقيل للسببية، أي يكون غمام يخلقه الله فيه قوة تنشقّ بها السماء لينزل الملائكة مثل قوة البرق التي تشق السحاب. وقيل الباء للملابسة، أي تشَّقَّق ملابسة لغمام يظهر حينئذ. وليس في الآية ما يقتضي مقارنة التشقق لنزول الملائكة ولا مقارنة الغمام للملائكة، فدَعْ الفهم يذهبْ في ترتيب ذلك كلَّ مذهب ممكن. وأُكد { نُزِّل الملائكة } بالمفعول المطلق لإفادة أنه نزول بالذات لا بمجرد الاتصال النُوراني مثل الخواطر الملكية التي تشعشع في نفوس أهل الكمال. وقرأ الجمهور { ونُزِّلَ الملائكةُ } بنون واحدة وتشديد الزاي وفتح اللام ورفع { الملائكة } مبنياً للنائب. وقرأه ابن كثير { ونُنْزِل } بنونين أولاهما مضمومة والثانية ساكنة وبضم اللام ونصب { الملائكة }. وقوله { الملك يومئذٍ } هو صدر الجملة المعطوفة فيتعلق به { يَومَ تشقق السماء بالغمام } ، وإنما قدم عليه للوجه المذكور في تقديم قولهيَوْم يَرَوْن الملائكة } الفرقان 22 وكذلك القول في تكرير { يومئذ }. و { الحق } الخالص، كقولك هذا ذهب حقّاً. وهو المُلك الظاهر أنه لا يماثله مُلك، لأن حالة الملك في الدنيا متفاوتة. والمُلك الكامل إنما هو لله، ولكن العقول قد لا تلتفت إلى ما في الملوك من نقص وعجز وتَبهرهم بهرجة تصرفاتهم وعطاياهم فينسون الحقائق، فأما في ذلك اليوم فالحقائق منكشفة وليس ثمة من يدّعي شيئاً من التصرف، وفي الحديث " ثم يقول الله أنا المَلِكُ أيْن ملوكُ الأرض " ووصف اليوم بعسير باعتبار ما فيه من أمور عسيرة على المشركين. وتقديم { على الكافرين } للحصر. وهو قصر إضافي، أي دون المؤمنين.