الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً }

افتتاح بديع لندرة أمثاله في كلام بلغاء العرب لأن غالب فواتحهم أن تكون بالأسماء مجردة أو مقترنة بحرف غير منفصل، مثل قول طرفة
لخولة أطلال ببُرقة ثِهمد   
أو بأفعال المضارعة ونحوها كقول امرىء القيس
قِفَا نَبْكِ البيت   
أو بحروف التأكيد أو الاستفهام أو التنبيه مثل إن وقد والهمزة وهل. ومن قبيل هذا الافتتاح قول الحارث بن حلَّزة
آذَنَتْنا بِبَيْنِهَا أسماءُ   
وقول النَّابغَة
كتمتُكَ ليلا بالجمومين ساهراً وهَمَّيْن هَمّاً مستكنّاً وظاهرا   
وبهذه الندرة يكون في طالع هذه السورة براعة المطلع لأن الندرة من العزة، والعزّةُ من محاسن الألفاظ وضدها الابتذال. وتبارك تعاظم خيره وتوفر، والمراد بخيره كمالاته وتنزهاته. وتقدم في قوله تعالىتبارك الله رب العالمين } في سورة الأعراف 54. والبركة الخير، وتقدم عند قوله تعالىاهبط بسلام مِنَّا وبركاتٍ عليك } في سورة هود 48 وعند قولهتحية من عند الله مباركة طيبة } في سورة النور 61. وظاهر قوله { تبارك الذي نزل الفرقان } أنه إخبار عن عظمة الله وتوفر كمالاته فيكون المقصود به التعليم والإيقاظ، ويجوز مع ذلك أن يكون كناية عن إنشاء ثناء على الله تعالى أنشأ الله به ثناء على نفسه كقولهسبحان الذي أسرى بعبده } الإسراء 1 على طريقة الكلام العربي في إنشاء التعجب من صفات المتكلم في مقام الفخر والعظمة، أو إظهار غرايب صدرت، كقول امرىء القيس
ويوم عقرتُ للعذارى مطيتي فيا عجباً من كوْرها المتحمَّلِ   
وإنما يتعجب من إقدامه على أن جَعَل كور المطية يحمله هو بعد عَقرها. ومنه قول الفِند الزِّمَّاني
أيا طعنةَ ما شيخٍ كبيرٍ يفن بَالِي   
يريد طعنة طعنها قِرْنَه. والذي نزل الفرقان هو الله تعالى. وإذ قد كانت الصلة من خصائص الله تعالى كان الفعل كالمسند إلى ضمير المتكلم فكأنه قيل تباركتُ. والموصول يومىء إلى علة ما قَبله فهو كناية عن تعظيم شأن الفرقان وبركته على الناس من قوله { ليكون للعالمين نذيراً }. فتلك منة عظيمة توجب الثناء على الله. وهو أيضاً كناية عن تعظيم شأن الرسول عليه الصلاة السلام. والتعريف بالموصول هنا لكون الصلة من صفات الله في نفس الأمر وعند المؤمنين وإن كان الكفار ينكرونها لكنهم يعرفون أن الرسول أعلنَها فالله معروف بذلك عندهم معرفة بالوجه لا بالكُنه الذي ينكرونه. والفرقان القرآن وهو في الأصل مصدر فرق، كما في قولهوما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان } الأنفال 41 وقولهيَجعَلْ لكم فُرقاناً } الأنفال 29. وجعل علماً بالغلبة على القرآن لأنه فرّق بين الحق والباطل لما بيَّن من دلائل الحق ودحض الباطل. وقد تقدم في قوله تعالىوأنزل الفرقان } في سورة آل عمران 4. وإيثار اسم الفرقان بالذكر هنا للإيماء إلى أن ما سيذكر من الدلائل على الوحدانيَّة وإنزال القرآن دلائل قيمة تفرّق بين الحق والباطل. ووصفُ النبي بـ { عبده } تقريب له وتمهيد لإبطال طلبهم منه في قوله

السابقالتالي
2