الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلْقَوَاعِدُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ ٱلَّلاَتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ }

هذه الآية مخصّصة لقوله تعالىولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن } النور 31 إلى قولهعلى عورات النساء } النور 31. ومناسبة هذا التخصيص هنا أنه وقع بعد فرض الاستيذان في الأوقات التي يضع الرجال والنساء فيها ثيابهم عن أجسادهم، فعطف الكلام إلى نوع من وضع الثياب عن لابسها وهو وضع النساء القواعد بعض ثيابهن عنهن فاستثني من عموم النساء النساءُ المتقدمات في السن بحيث بلغن إبان الإياس من المحيض فرخص لهن أن لا يضربن بخمرهن على جيوبهن، وأن لا يدنين عليهن من جلابيبهن. فعن ابن مسعود وابن عباس الثياب الجلباب، أي الرداء والمقنعة التي فوق الخمار. وقال السدي يجوز لهن وضع الخمار أيضاً. والقواعد جمع قاعد بدون هاء تأنيث مثل حامل وحائض لأنه وصف نُقل لمعنى خاص بالنساء وهو القعود عن الولادة وعن المحيض. استعير القعود لعدم القدرة لأن القعود يمنع الوصول إلى المرغوب وإنما رغبة المرأة في الولد والحيضُ من سبب الولادة فلما استعير لذلك وغلب في الاستعمال صار وصف قاعد بهذا المعنى خاصّاً بالمؤنث فلم تلحقه هاء التأنيث لانتفاء الداعي إلى الهاء من التفرقة بين المذكر والمؤنث وقد بينه قوله { اللاتي لا يرجون نكاحاً } ، وذلك من الكبر. وقوله { اللاتي لا يرجون نكاحاً } وصف كاشف لـ { القواعد } وليس قيداً. واقترن الخبر بالفاء في قوله { فليس عليهن جناح } لأن الكلام بمعنى التسبب والشرطية، لأن هذا المبتدأ يشعر بترقب ما يرد بعده فشابه الشرط كما تقدم في قوله تعالىوالسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } المائدة 38. ولا حاجة إلى ادعاء أن ال فيه موصولة إذ لا يظهر معنى الموصول لحرف التعريف وإن كثر ذلك في كلام النحويين. و { أن يضعن } متعلق بـ { جناح } بتقدير في. والمراد بالثياب بعضها وهو المأمور بإدنائه على المرأة بقرينة مقام التخصيص. والوضع إناطة شيء على شيء، وأصله أن يعدى بحرف على وقد يعدى بحرف عن إذا أريد أنه أزيل عن مكان ووضع على غيره وهو المراد هنا كفعل ترغبون في قوله تعالىوترغبون أن تنكحوهن } في سورة النساء 127، أي أن يزلن عنهن ثيابهن فيضعنها على الأرض أو على المشجب. وعلة هذه الرخصة هي أن الغالب أن تنتفي أو تقل رغبة الرجال في أمثال هذه القواعد لكبر السن. فلما كان في الأمر بضرب الخُمُر على الجيوب أو إدناء الجلابيب كلفة على النساء المأمورات اقتضاها سد الذريعة، فلما انتفت الذريعة رفع ذلك الحكم رحمة من الله، فإن الشريعة ما جعلت في حكم مشقة لضرورة إلا رفعت تلك المشقة بزوال الضرورة وهذا معنى الرخصة. ولذلك عقب هذا الترخيص بقوله { وأن يستعففن خير لهن }. والاستعفاف التعفف، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استجاب، أي تعففهن عن وضع الثياب عنهن أفضل لهن ولذلك قيد هذا الإذن بالحال وهو { غير متبرجات بزينة } أي وضعاً لا يقارنه تبرج بزينة.

السابقالتالي
2