الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِٱلأَبْصَارِ }

أعقب الدلالة على إعطاء الهدى في قوانين الإلهام في العجاوات بالدلالة على خلق الخصائص في الجماد بحيث تسير على السير الذي قدره الله لها سيراً لا يتغير، فهي بذلك أهدى من فريق الكافرين الذين لهم عقول وحواس لا يهتدون بها إلى معرفة الله تعالى والنظر في أدلتها، وفي ذلك دلالة على عظم القدرة وسعة العلم ووحدانية التصرف. وهذا استدلال بنظام بعض حوادث الجو حتى آل إلى قوله { فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء }. وقد حصل من هذا حسن التخلص للانتقال إلى الاستدلال على عظم القدرة وسمو الحكمة وسعة العلم الإلهي. و { يزجي } يسوق. يقال أزجى الإبل إزجاء. وأطلق الإزجاء على دنو بعض السحاب من بعض بتقدير الله تعالى الشبيهِ بالسوْق حتى يصير سحاباً كثيفاً، فانضمام بعض السحاب إلى بعض عبر عنه بالتأليف بين أجزائه بقوله تعالى { ثم يؤلف بينه } الخ. وتقدم الكلام على السحاب في سورة البقرة 164 في قولهوالسحاب المسخر } وفي أول سورة الرعد12. ودخلت بين على ضمير السحاب لأن السحاب ذو أجزاء كقول امرىء القيس
بَيْن الدخول فحَوْمَل   
أي يؤلف بين السحابات منه. والركام مشتق من الركم. والركم الجمع والضم. ووزن فُعال وفُعالة يدل على معنى المفعول. فالركام بمعنى المركوم كما جاء في قوله تعالىوإن يَروا كسفاً من السماء ساقطاً يقولوا سحاب مركوم } في سورة الطور 44. فإذا تراكم السحاب بعضه على بعض حدث فيه ما يسمى في علم حوادث الجو بالسيال الكهربائي وهو البرق. فقال بعض المفسرين هو الودق. وأكثر المفسرين على أن الودق هو المطر، وهو الذي اقتصرت عليه دواوين اللغة، والمطر يخرج من خلال السحاب. والخلال الفتوق، جمع خَلَل كجبل وجبال. وتقدمخلال الديار } في سورة الإسراء 5. ومعنى { ينزل من السماء } يُسقط من علو إلى سفل، أي يُنزل من جو السماء إلى الأرض. والسماء الجو الذي فوق جهة من الأرض. وقوله { من جبال } بدل من { السماء } بإعادة حرف الجر العامل في المبدل منه وهو بدل بعض لأن المراد بالجبال سحاب أمثال الجبال. وإطلاق الجبال في تشبيه الكثرة معروف. يقال فلان جبل علم، وطود علم. وفي حديث البخاري من طريق أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو كان لي مثل أحُد ذهباً لسَرّني أن لا تمر علي ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيئاً أرصده لدين " أي ما كان يسرني، فالكلام بمعنى النفي، أي لمَا سرني. أو لما كان سرني الخ. وحرف { من } الأول للابتداء و { من } الثاني كذلك و { من } في قوله { من برد } مزيدة في الإثبات على رأي الذين جوزوا زيادة { من } في الإثبات.

السابقالتالي
2