الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ }

لمّا جرى ذكر أعمال المتقين من المؤمنين وجزائهم عليها بقوله تعالىيسبح له فيها بالغدو والآصال رجال } النور 36 إلى قولهليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب } النور 38 أعقب ذلك بضده من حال أعمال الكافرين التي يحسبونها قربات عند الله تعالى وما هي بمغنية عنهم شيئاً على عادة القرآن في إرداف البشارة بالنذارة، وعكس ذلك كقولهثم مأواهم جهنم وبئس المهاد لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات } آل عمران 197، 198 الخ فعطْف حال أعمال الكافرين عطف القصة على القصة. ولعل المشركين كانوا إذا سمعوا ما وعد الله به المؤمنين من الجزاء على الأعمال الصالحة يقولون ونحن نعمر المسجد الحرام ونطوف ونطعم المسكين ونسقي الحاج ونقري الضيف. كما أشار إليه قوله تعالىأجعلتم سقاية الحج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر } التوبة 19 يعدون أعمالاً من أفعال الخير فكانت هذه الآيات إبطالاً لحسبانهم، قال تعالىوقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً } الفرقان 23 وقد أعلمناك أن هذه السورة نزل أكثرها عقب الهجرة وذلك حين كان المشركون يتعقبون أخبار المسلمين في مهاجرهم ويتحسسون ما نزل من القرآن. والجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً. { والذين كفروا } مبتدأ وخبره جملة { أعمالهم كسراب } الخ. وجعل المسند إليه ما يدل على ذوات الكافرين ثم بُني عليه مسند إليه آخر وهو { أعمالهم }. ولم يُجعل المسند إليه أعمال الذين كفروا من أول وهلة لما في الافتتاح بذكر الذين كفروا من التشويق إلى معرفة ما سيذكر من شؤونهم ليتقرر في النفس كمال التقرر وليظهر أن للذين كفروا حظاً في التمثيل بحيث لا يكون المشبه أعمالهم خاصة. وفي الإتيان بالموصول وصلته إيماء إلى وجه بناء الخبر. وهو أنه من جزاء كفرهم بالله. على أنه قد يكون عنوان الذين كفروا قد غلب على المشركين من أهل مكة فيكون افتتاح الكلام بهذا الوصف إشارة إلى أنه إبطال لشيء اعتقده الذين كفروا. فتشبيه الكافرين وأعمالهم تشبيه تمثيلي شبهت حالة كدهم في الأعمال وحرصهم على الاستكثار منها مع ظنهم أنها تقربهم إلى رضى الله ثم تبيّن أنها لا تجديهم بل يلقون العذاب في وقت ظنهم الفوز شبه ذلك بحالة ظمئان يرى السراب فيحسبه ماء فيسعى إليه فإذا بلغ المسافة التي خال أنها موقع الماء لم يجد ماء ووجد هنالك غريماً يأسره ويحاسبه على ما سلف من أعماله السيئة. واعلم أن الحالة المشبهة مركبة من محسوس ومعقول والحالة المشبه بها حالة محسوسة. أي داخلة تحت إدراك الحواس. والسراب رطوبة كثيفة تصعد على الأرض ولا تعلو في الجو تنشأ من بين رطوبة الأرض وحرارة الجو في المناطق الحارة الرملية فيلوح من بعيد كأنه ماء.

السابقالتالي
2 3