الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ }

ذُيِّلت الأحكام والمواعظ التي سبقت بإثبات نفعها وجدواها لما اشتملت عليه مما ينفع الناس ويقيم عمود جماعتهم ويميز الحق من الباطل ويزيل من الأذهان اشتباه الصواب بالخطأ فيعلم الناس طرق النظر الصائب والتفكير الصحيح، وذلك تنبيه لما تستحقه من التدبر فيها ولنعمة الله على الأمة بإنزالها ليشكروا الله حق شكره. ووصف هذه الآيات المنزلة بثلاث صفات كما وصف السورة في طالعتها بثلاث صفات. والمقصد من الأوصاف في الموضعين هو الامتنان فكان هذا يشبه رد العجز على الصدر، فجملة { ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات } مستأنفة استئناف التذييل وكان مقتضى الظاهر أن لا تعطف لأن شأن التذييل والاستئناف الفصل كما فصلت أختها الآتية قريباً بقوله تعالىلقد أنزلنا آيات مبينات } النور 46. وإنما عدل عن الفصل إلى العطف لأن هذا ختام التشريعات والأحكام التي نزلت السورة لأسبابها. وقد خللت بمثل هذا التذييل مرتين قبل هذا بقوله تعالى في ابتداء السورةوأنزلنا فيها آيات بينات } النور 1 ثم قولهويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم } النور 18 ثم قوله هنا { ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات } فكان كل واحد من هذه التذييلات زائداً على الذي قبله فالأول زائد بقولهيبين الله لكم الآيات } النور 18 لأنه أفاد أن بيان الآيات لفائدة الأمة، وما هنا زاد بقوله { ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين }.فكانت كل زيادة من هاتين مقتضية العطف لما حصل من المغايرة بينها وبين أختها، وتعتبر كل واحدة عطفاً على نظيرتها، فوصفت السورة كلها بثلاث صفات ووصف ما كان من هذه السورة مشتملاً على أحكام القذف والحدود وما يفضي إليها أو إلى مُقاربها من أحوال المعاشرة بين الرجال والنساء بثلاث صفات، فقوله هنا { ولقد أنزلنا إليكم آيات مبيَّنات } يطابق قوله في أول السورةوأنزلنا فيها آيات بينات } النور 1، وقوله { ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم } يقابل قوله في أول السورةوفرضناها } النور 1 على ما اخترناه في تفسير ذلك بأن معناه التعيين والتقدير لأن في التمثيل تقديراً وتصويراً للمعاني بنظائرها وفي ذلك كشف للحقائق، وقوله { وموعظة للمتقين } يقابل قوله في أولهالعلكم تذكرون } النور 1. والآيات جمل القرآن لأنها لكمال بلاغتها وإعجازها المعاندين عن أن يأتوا بمثلها كانت دلائل على أنه كلام منزّل من عند الله. وابتدىء الكلام بلام القسم وحرف التحقيق للاهتمام به. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب { مبيَّنات } بفتح التحتية على صيغة المفعول. فالمعنى أن الله بيّنها ووضحها. وقرأ الباقون بكسر التحتية على معنى أنها أبانت المقاصد التي أنزلت لأجلها. ومعنيا القراءتين متلازمان فبذلك لم يكن تفاوت بين مفاد هذه الآية ومفاد قوله في نظيرتهاوأنزلنا فيها آيات بينات }

السابقالتالي
2