الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَهْلِهَا ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } * { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ٱرْجِعُواْ فَٱرْجِعُواْ هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }

ذكرنا أن من أكبر الأغراض في هذه السورة تشريع نظام المعاشرة والمخالطة العائلية في التجاور. فهذه الآيات استئناف لبيان أحكام التزاور وتعليم آداب الاستئذان، وتحديد ما يحصل المقصود منه كيلا يكون الناس مختلفين في كيفيته على تفاوت اختلاف مداركهم في المقصود منه والمفيد. وقد كان الاستئذان معروفاً في الجاهلية وصدر الإسلام، وكان يختلف شكله باختلاف حال المستأذن عليه من ملوك وسوقة فكان غير متماثل. وقد يتركه أو يقصر فيه من لا يهمه إلا قضاء وطره وتعجيل حاجته، ولا يبعد بأن يكون ولوجه محرجاً للمزور أو مثقلاً عليه فجاءت هذه الآيات لتحديد كيفيته وإدخاله في آداب الدين حتى لا يفرط الناس فيه أو في بعضه باختلاف مراتبهم في الاحتشام والأنفة واختلاف أوهامهم في عدم المؤاخذة أو في شدتها. وشرع الاستئذان لمن يزور أحداً في بيته لأن الناس اتخذوا البيوت للاستتار مما يؤذي الأبدان من حرّ وقرّ ومطر وقتام، ومما يؤذي العرض والنفس من انكشاف ما لا يحب الساكن اطلاع الناس عليه، فإذا كان في بيته وجاءه أحد فهو لا يدخله حتى يصلح ما في بيته وليستر ما يحب أن يستره ثم يأذن له أو يخرج له فيكلمه من خارج الباب. ومعنى { تستأنسوا } تطلبوا الأنس بكم، أي تطلبوا أن يأنس بكم صاحب البيت، وأنسه به بانتفاء الوحشة والكراهية. وهذا كناية لطيفة عن الاستئذان، أي أن يستأذن الداخل، أي يطلب إذناً من شأنه أن لا يكون معه استيحاش رب المنزل بالداخل. قال ابن وهب قال مالك الاستئناس فيما نرى والله أعلم الاستئذان. يريد أنه المراد كناية أو مرادفة فهو من الأنس، وهذا الذي قاله مالك هو القول الفصل. ووقع لابن القاسم في «جامع العتيبة» أن الاستئناس التسليم. قال ابن العربي وهو بعيد. وقلت أراد ابن القاسم السلام بقصد الاستئذان فيكون عطف { وتسلموا } عطف تفسير. وليس المراد بالاستئناس أنه مشتق من آنس بمعنى علم لأن ذلك إطلاق آخر لا يستقيم هنا فلا فائدة في ذكره وذلك بحسب الظاهر فإنه إذا أذن له دل إذنه على أنه لا يكره دخوله وإذا كره دخوله لا يأذن له والله متولي علم ما في قلبه فلذلك عُبر عن الاستئذان بالاستئناس مع ما في ذلك من الإيماء إلى علة مشروعية الاستئذان. وفي ذلك من الآداب أن المرء لا ينبغي أن يكون كلاًّ على غيره، ولا ينبغي له أن يعرض نفسه إلى الكراهية والاستثقال، وأنه ينبغي أن يكون الزائر والمزور متوافقين متآنسين وذلك عون على توفر الأخوة الإسلامية. وعطف الأمر بالسلام على الاستئناس وجعل كلاهما غاية للنهي عن دخول البيوت تنبيهاً على وجوب الإتيان بهما لأن النهي لا يرتفع إلا عند حصولهما.

السابقالتالي
2 3 4