الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ٱلْغَافِلاَتِ ٱلْمُؤْمِناتِ لُعِنُواْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } * { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ ٱللَّهُ دِينَهُمُ ٱلْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ ٱلْمُبِينُ }

جملة { إن الذين يرمون المحصنات } استئناف بعد استئناف قولهإن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا } النور 19 والكل تفصيل للموعظة التي في قولهيعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين } النور 17 فابتدىء بوعيد العود إلى محبة ذلك وثُني بوعيد العود إلى إشاعة القالة، فالمضارع في قوله { يرمون } للاستقبال. وإنما لم تعطف هذه الجملة لوقوع الفصل بينها وبين التي تناسبها بالآيات النازلة بينهما من قولهيا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان } النور 21. واسم الموصول ظاهر في إرادة جماعة وهم عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه. و { الغافلات } هن اللاتي لا علم لهن بما رُمين به. وهذا كناية عن عدم وقوعهن فيما رُمين به لأن الذي يفعل الشيء لا يكون غافلاً عنه فالمعنى إن الذين يرمون المحصنات كذباً عليهن، فلا تحسب المرادَ الغافلات عن قول الناس فيهن. وذكر وصف { المؤمنات } لتشنيع قذف الذين يقذفونهن كذباً لأن وصف الإيمان وازع لهن عن الخنى. وقوله { لعنوا } إخبار عن لعن الله إياهم بما قدَّر لهم من الإثم وما شَرع لهم. واللعن في الدنيا التفسيق، وسلب أهلية الشهادة، واستيحاش المؤمنين منهم، وحد القذف، واللعن في الآخرة الإبعاد من رحمة الله. والعذاب العظيم عذاب جهنم فلا جدوى في الإطالة بذكر مسألة جواز لعن المسلم المعيّن هنا ولا في أن المقصود بها من كان من الكفرة. والظرف في قوله { يوم تشهد عليهم } متعلق بما تعلق به الظرف المجعول خبراً للمبتدأ في قوله { ولهم عذاب عظيم }. وذكر شهادة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم للتهويل عليهم لعلهم يتقون ذلك الموقف فيتوبون. وشهادة الأعضاء على صاحبها من أحوال حساب الكفار. وتخصيص هذه الأعضاء بالذكر مع أن الشهادة تكون من جميع الجسد كما قال تعالىوقالوا لجلودهم لِمَ شهدتم علينا } فصلت 21 لأن لهذه الأعضاء عملاً في رمي المحصنات فهم ينطقون بالقذف ويشيرون بالأيدي إلى المقذوفات ويسعون بأرجلهم إلى مجالس الناس لإبلاغ القذف. وقرأ حمزة والكسائي وخلف { يشهد عليهم } بالتحتية، وذلك وجه في الفعل المسند إلى ضمير جمع تكسير. وقوله { يومئذٍ يوفيهم الله دينهم } استئناف بياني لأن ذكر شهادة الأعضاء يثير سؤالاً عن آثار تلك الشهادة فيجاب بأن أثرها أن يجازيهم الله على ما شهدت به أعضاؤهم عليهم. فدينهم جزاؤهم كما في قولهملك يوم الدين } الفاتحة 4. و { الحقَّ } نعت للدين، أي الجزاء العادل الذي لا ظلم فيه فوصف بالمصدر للمبالغة. وقوله { ويعلمون أن الله هو الحق المبين } أي ينكشف للناس أن الله الحق. ووصف الله بأنه { الحق } وصف بالمصدر لإفادة تحقق اتصافه بالحق، كقول الخنساء
ترتع ما رتعت حتى إذا ادَّكرت فإنما هي إقبال وإدبار   
وصفة الله بأنه { الحق } بمعنيين أولهما بمعنى الثابت الحاق، وذلك لأن وجوده واجب فذاته حق متحققة لم يسبق عليها عدم ولا انتفاء فلا يقبل إمكان العدم.

السابقالتالي
2