الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }

{ ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِى فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ }. ابتداء كلام وهو كالعنوان والترجمة في التبويب فلذلك أتي بعده بالفاء المؤذنة بأن ما بعدها في قوة الجواب وأن ما قبلها في قوة الشرط. فالتقدير الزانية والزاني مما أنزلت له هذه السورة وفرضت. ولما كان هذا يستدعي استشراف السامع كان الكلام في قوة إن أردتم حكمهما فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة. وهكذا شأن هذه الفاء كلما جاءت بعد ما هو في صورة المبتدأ فإنما يكون ذلك المبتدأ في معنى ما للسامع رغبة في استعلام حاله كقول الشاعر، وهو من شواهد «كتاب سيبويه» التي لم يعرف قائلها
وقائلة خولانُ فانكح فتاتهم وأُكرومة الحيين خِلو كما هِيا   
التقدير هذه خولان، أو خولان مما يرغب في صهرها فانكح فتاتهم إن رغبت. ومن صرفوا ذهنهم عن هذه الدقائق في الاستعمال قالوا الفاء زائدة في الخبر. وتقدم زيادة الفاء في قوله تعالىوالسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } في سورة العقود 38. وصيغتا { الزانية والزاني } صيغة اسم فاعل وهو هنا مستعمل في أصل معناه وهو اتصاف صاحبه بمعنى مادته فلذلك يعتبر بمنزلة الفعل المضارع في الدلالة على الاتصاف بالحدث في زمن الحال، فكأنه قيل التي تزني والذي يزني فاجلدوا كل واحد منهما إلخ. ويؤيد ذلك الأمر بجلد كل واحد منهما فإن الجلد يترتب على التلبس بسببه. ثم يجوز أن تكون قصة مرثد بن أبي مرثد النازل فيها قوله تعالىالزاني لا ينكح إلا زنية أو مشركة } النور 3 إلخ هي سبب نزول أول هذه السورة. فتكون آية { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة } هي المقصد الأول من هذه السورة ويكون قوله { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } تمهيداً ومقدمة لقولهالزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة } النور 3 فإن تشنيع حال البغايا جدير بأن يقدم قبله ما هو أجدر بالتشريع وهو عقوبة فاعل الزنى. ذلك أن مرثد ما بعثه على الرغبة في تزوج عناق إلا ما عرضته عليه من أن يزني معها. وقدم ذكر { الزانية } على { الزاني } للاهتمام بالحكم لأن المرأة هي الباعث على زنى الرجل وبمساعفتها الرجل يحصل الزنى ولو منعت المرأة نفسها ما وجد الرجل إلى الزنى تمكيناً، فتقديم المرأة في الذكر لأنه أشد في تحذيرها. وقوله { كل واحد منهما } للدلالة على أنه ليس أحدهما بأولى بالعقوبة من الآخر. وتعريف { الزانية والزاني } تعريف الجنس وهو يفيد الاستغراق غالباً ومقام التشريع يقتضيه، وشأن أل الجنسية إذا دخلت على اسم الفاعل أن تبعّد الوصف عن مشابهة الفعل فلذلك لا يكون اسم الفاعل معها حقيقة في الحال ولا في غيره وإنما هو تحقق الوصف في صاحبه.

السابقالتالي
2 3 4 5