الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ }

هذه صفة أخرى من جلائل صفات المؤمنين تنحل إلىَ فضيلتين هما فضيلة أداء الأمانة التي يؤتمنون عليها وفضيلة الوفاء بالعهد. فالأمانة تكون غالباً من النفائس التي يخشى صاحبها عليها التلف فيجعلها عند من يظن فيه حفظها، وفي الغالب يكون ذلك على انفراد بين المؤتمِننِ والأمين، فهي لنفاستها قد تغري الأمين عليها بأن لا يردها وبأن يجحدها ربها، ولكون دفعها في الغالب عَرِيّاً عن الإشهاد تبعث محبتها الأمينَ على التمسك بها وعدم ردها، فلذلك جعل الله ردّها من شعب الإيمان. وقد جاء في الحديث عن حذيفة بن اليَمَان قال " حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأمانة نزلت في جَذْرِ قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة " وحدثنا عن رفعها قال " ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فَيَظَلّ أثَرُها مثل أثر الوكْت ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المَجْل كجَمْرٍ دَحرجتَه على رِجلك فَنَفِطَ فتراه مُنْتَبِراً وليس فيه شيء فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة، فيقال إن في بني فلان رجلاً أميناً، ويقال للرجل ما أعقله وما أظرفه وما أجلده وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان " اهــــ. الوكت سواد يكون في قِشر التمر. والمَجْل انتفاخ في الجلد الرقيق يكون شبه قِشر العِنبة ينشأ من مس النار الجلدَ ومن كثْرة العمل باليد وقوله " مثقال حبة خردل من إيمان " هو مصدر آمنَه، أي ومَا في قرارة نفسه شيء من إيمان الناس إيَّاه فلا يأتمنه إلاّ مغرور. وقد تقدم الكلام على الأمانة في قوله تعالىإن الله يأمركم أن تُؤَدوا الأماناتِ إلى أهلها } في سورة النساء 58. وجمع { الأمانات } باعتبار تعدد أنواعها وتعدد القائمين بالحفظ تنصيصاً على العموم. وقرأ الجمهور { لأماناتهم } بصيغة الجمع، وقرأه ابن كثير { لأمانتهم } بالإفراد باعتبار المصدر مثلالذين هم في صَلاتهم خاشعون } المؤمنون 2. والعهد التزام بين اثنين أو أكثر على شيء يعامِل كل واحد من الجانبين الآخرَ به. وسمي عهداً لأنهما يتحَالفان بعهد الله، أي بأن يكون الله رقيباً عليهما في ذلك لا يفيتهم المؤاخذة على تخلفه، وتقدم عند قوله تعالىالذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } في سورة البقرة 27. والوفاء بالعهد من أعظم الخلق الكريم لدلالته على شرف النفس وقوة العزيمة، فإن المرأيْنِ قد يلتزم كل منهما للآخر عملاً عظيماً فيصادف أن يتوجه الوفاء بذلك الإلتزام على أحدهما فيصعب عليه أن يتجشم عملاً لنفع غيره بدون مقابل ينتفع به هو فتسول له نفسه الخَتْر بالعهد شحّاً أو خوراً في العزيمة، فلذلك كان الوفاء بالعهد علامة على عظم النفس قال تعالى

السابقالتالي
2