الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ ٱلْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ ٱلأَوَّلِينَ } * { أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } * { أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَآءَهُمْ بِٱلْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ }

الفاء لتفريع الكلام على الكلام السابق وهو قولهبل قلوبهم في غمرة من هذا } المؤمنون 63 إلى قولهسامراً تهجرون } المؤمنون 67. وهذا التفريع معترض بين جملة { بل قلوبهم في غمرة من هذا } وجملةولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون } المؤمنون 75. والمفرع استفهامات عن سبب إعراضهم واستمرار قلوبهم في غمرة إلى أن يحل بهم العذاب الموعودونه. وهذه الاستفهامات مستعملة في التخطئة على طريقة المجاز المرسل لأن اتضاح الخطأ يستلزم الشك في صدوره عن العقلاء فيقتضي ذلك الشك السؤال عن وقوعه من العقلاء. ومآل معاني هذه الاستفهامات أنها إحصاء لمثار ضلالهم وخطئهم ولذلك خصت بذكر أمور من هذا القبيل. وكذلك احتجاج عليهم وقطع لمعذرتهم وإيقاظ لهم بأن صفات الرسول كلها دالة على صدقه. فالاستفهام الأول عن عدم تدبرهم فيما يتلى عليهم من القرآن وهو المقصود بالقول أي الكلام، قال تعالىأفلا يتدبرون القرآن } النساء 82. والتدبر إعمال النظر العقلي في دلالات الدلائل على ما نصبت له. وأصله أنه من النظر في دُبُر الأمر، أي فيما لا يظهر منه للمتأمل بادىء ذي بدء. وقد تقدم عند قوله تعالىأفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوَجدوا فيه اختلافاً كثيراً } في سورة النساء 82. والمعنى أنهم لو تدبروا قول القرآن لعلموا أنه الحق بدلالة إعجازه وبصحة أغراضه، فما كان استمرار عنادهم إلا لأنهم لم يدبروا القول. وهذا أحد العلل التي غمرت بهم في الكفر. والاستفهام الثاني هو المقدر بعد أم وقوله { أم لم يعرفوا رسولهم }. فــــأم حرف إضراب انتقالي من استفهام إلى غيره وهي أم المنقطعة بمعنى بل ويلزمها تقدير استفهام بعدها لا محالة. فقوله { جاءهم ما لم يأت آباءهم } تقديره بل أجاءهم. والمجيء مجاز في الإخبار والتبليغ، وكذلك الإتيان. وما الموصولة صادقة على دين. والمعنى أجاءهم دين لم يأت آباءهم الأولين وهو الدين الداعي إلى توحيد الإلٰه وإثبات البعث، ولذلك كانوا يقولونإنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون } الزخرف 22. ولهذا قال الله تعالىوكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قل أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون } الزخرف 23، 24. ثم إنه إن كان المراد ظاهر معنى الصلة وهي { ما لم يأت آباءهم الأولين } من أن الدين الذي جاءهم لا عهد لهم به، تعين أن يكون في الكلام تهكم بهم إذ قد أنكروا ديناً جاءهم ولم يسبق مجيئه لآباءهم. ووجه التهكُّم أن شأن كل رسول جاء بدين أن يكون دينه أُنُفا ولو كان للقوم مثله لكان مجيئه تحصيل حاصل.

السابقالتالي
2 3