الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } * { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } * { ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ }

الواو عاطفة غرضاً على غرض ويسمى عطف القصّة على القصّة، فللجملة حكم الاستيناف لأنها عطف على جملةقد أفلح المؤمنون } المؤمنون 1 التي هي ابتدائية وهذا شروع في الاستدلال على انفراد الله تعالى بالخلق وبعظيم القدرة التي لا يشاركه فيها غيره، وعلى أن الإنسان مربوب لله تعالى وحده، والاعتبار بما في خلق الإنسان وغيره من دلائل القدرة ومن عظيم النعمة. فالمقصود منه إبطال الشرك لأن ذلك الأصل الأصيل في ضلال المعرضين عن الدعوة المحمدية، ويتضمن ذلك امتناناً على الناس بأنه أخرجهم من مهانة العدم إلى شرف الوجود وذلك كله ليَظهر الفرق بين فريق المؤمنين الذين جَروا في إيمانهم على ما يليق بالاعتراف بذلك وبين فريق المشركين الذين سلكوا طريقاً غير بينة فحادوا عن مقتضى الشكر بالشركِ. وتأكيد الخبر بلام القسم وحرف التحقيق مراعًى فيه التعريض بالمشركين المنزّلين منزلة من ينكر هذا الخبر لعدم جريهم على موجب العلم. والخَلق الإنشاء والصنع، وقد تقدم في قولهقال كذلك الله يخلق ما يشاء } في آل عمران 47. والمراد بالإنسان يجوز أن يكون النوعَ الإنساني، وفسر به ابن عباس ومجاهد، فالتعريف للجنس. وضمير { جعلناه } عائد إلى الإنسان. والسّلالة الشيء المسلول، أي المنتَزع من شيء آخر، يقال سَللت السيف، إذا أخرجته من غمده، فالسلالة خلاصة من شيء، ووزن فُعَالة يؤذن بالقلة مثل القُلامة والصُبابة. و { من } ابتدائية، أي خلقناه منفصلاً وآتيا من سلالة، فتكون السلالة على هذا مجموع ماء الذكر والأنثى المسلول من دمهما. وهذه السلالة هي ما يفرزه جهاز الهضم من الغذاء حين يصير دماً فدم الذكر حين يمر على غدتي التناسل الأنثيين تفرز منه الأنثيان مادة دُهنيَّة شحميَّة تحتفظ بها وهي التي تتحوّل إلى منيّ حين حركة الجماع، فتلك السلالة مخرجة من الطين لأنها من الأغذية التي أصلها من الأرض. ودم المرأة إذا مر على قناة في الرحم ترك فيها بويضات دقيقة هي بَذر الأجنة. ومن اجتماع تلك المادة الدُهنية التي في الأنثيين مع البويضة من البويضات التي في قناة الرحم يتكوّن الجنين فلا جرم هو مخلوق من سُلالةٍ من طينٍ. وقوله { ثم جعلناه نطفة في قرار مَكين } طور آخر للخلق وهو طور اختلاط السُلالتين في الرحم. سميت سُلالة الذكر نطفة لأنها تنطُف، أي تقطر في الرحم في قناة معروفة وهو القرار المكين. فــــ { نطفةً } مَنصُوبٌ على الحال وقوله { في قرار مكين } هو المفعول الثاني لــــ { جعلناه }. و { ثم } للترتيب الرتبي لأن ذلك الجعل أعظم من خلق السلالة. فضمير { جعلناه } عائد إلى الإنسان باعتبار أنه من السلالة، فالمعنى جعلنا السلالة في قرار مكين، أي وضعناها فيه حفظاً لها، ولذلك غُير في الآية التعبير عن فعل الخلق إلى فعل الجعل المتعدي بــــفي بمعنى الوضع.

السابقالتالي
2 3