الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ } * { لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ }

{ حتى } ابتدائية وقد علمت مفادها غير مرة، وتقدمت في سورة الأنبياء. ولا تفيد أن مضمون ما قبلها مُغيّا بها فلا حاجة إلى تعليق حتى بــــيصفون } المؤمنون 91. والوجه أن حتى متصلة بقولهوإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون } المؤمنون 95. فهذا انتقال إلى وصف ما يلقون من العذاب في الآخرة بعد أن ذكر عذابهم في الدنيا فيكون قوله هنا { حتى إذا جاء أحدهم الموت } وصفاً أُنُفا لعذابهم في الآخرة. وهو الذي رجحنا به أن يكون ما سبق ذكره من العذاب ثلاث مرات عذاباً في الدنيا لا في الآخرة. فإن حملتَ العذاب السابق الذكر على عذاب الآخرة كان ذلك إجمالاً وكان قوله { حتى إذا جاء أحدهم الموت } إلى آخره تفصيلاً له. وضمائر الغيبة عائدة إلى ما عادت عليه الضمائر السابقة من قولهقالوا أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون } المؤمنون 82 إلى ما هنا وليست عايدة إلى الشياطين. ولقصد إدماج التهديد بما سيشاهدون من عذاب أعدّ لهم فيندمون على تفريطهم في مدة حياتهم. وضمير الجمع في { ارجعون } تعظيم للمخاطب. والخطاب بصيغة الجمع لقصد التعظيم طريقة عربية، وهو يلزم صيغة التذكير فيقال في خطاب المرأة إذا قصد تعظيمها أنتم. ولا يقال أنتن. قال العرجي
فإن شئتِ حرَّمتُ النساء سواكم وإن شئتِ لم أطعم نُقاخاً ولا بردا   
فقال سواكم، وقال جعفر بن علبة الحارثي من شعراء الحماسة
فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم لشيء ولا أني من الموت أفرق   
فقال بعدكم، وقد حصل لي هذا باستقراء كلامهم ولم أر من وقَّف عليه. وجملة الترجي في موضع العلة لمضمون { ارجعون }. والترك هنا مستعمل في حقيقته وهو معنى التخلية والمفارقة. وما صدق { ما تركت } عالم الدنيا. ويجوز أن يراد بالترك معناه المجازي وهو الإعراض والرفض، على أن يكون ما صدق الموصول الإيمان بالله وتصديق رسوله، فذلك هو الذي رفضه كل من يموت على الكفر، فالمعنى لعلي أسلم وأعمل صالحاً في حالة إسلامي الذي كنت رفضته، فاشتمل هذا المعنى على وعد بالامتثال واعتراف بالخطأ فيما سلف. ورُكب بهذا النظم الموجز قضاءً لحق البلاغة. و { كلاّ } ردع للسامع ليعلم إبطال طلبة الكافر. وقوله { إنها كلمة هو قائلها } تركيب يجري مجرى المثل وهو من مبتكرات القرآن. وحاصل معناه أن قول المشرك { رب ارجعون } إلخ لا يتجاوز أن يكون كلاماً صدر من لسانه لا جدوى له فيه، أي لا يستجاب طلبه به. فجملة { هو قائلها } وصف لــــ { كلمة } ، أي هي كلمة هذا وصفها. وإذ كان من المحقق أنه قائلها لم يكن في وصف { كلمة } به فائدة جديدة فتعين أن يكون الخبر مستعملاً في معنى أنه لا وصف لكلمته غير كونها صدرت من في صاحبها.

السابقالتالي
2