الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَاهِدُوا فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ وَٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ }

{ وَجَـٰهِدُوا فِى ٱللَّهِ حَقَّ جِهَـٰدِهِ } الجهاد بصيغة المفاعلة حقيقة عرفية في قتال أعداء المسلمين في الدّين لأجل إعلاء كلمة الإسلام أو للدفع عنه كما فسرّه النبي - صلى الله عليه وسلم - " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ". وأن ما روي " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حين قفل من غزوة تبوك قال لأصحابه «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» " وفسّره لهم بمجاهدة العبد هواه، فذلك محمول على المشاكلة بإطلاق الجهاد على منع داعي النفس إلى المعصية.ومعنى في التعليل، أي لأجل الله، أي لأجل نصر دينه كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " دخلت امرأة النارَ في هِرّة " أي لأجل هِرة، أي لعمل يتعلق بهرّة كما بيّنه بقوله " حَبَسَتْها لا هِيَ أطعمتها ولا هي أرسلتها ترمم من خشاش الأرض حتى ماتت هزلاً ". وانتصب { حق جهاده } على المفعول المطلق المبيّن للنوع، وأضيفت الصفة إلى الموصوف، وأصله جهادَه الحقّ، وإضافة جهاد إلى ضمير الجلالة لأدنى ملابسة، أي حق الجهاد لأجله، وقرينة المراد تقدّم حرف في كقوله تعالىيا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } آل عمران 102.والحق بمعنى الخالص، أي الجهاد الذي لا يشوبه تقصير.والآية أمر بالجهاد، ولعَلّها أول آية جاءت في الأمر بالجهاد لأنّ السورة بعضها مكي وبعضها مدنيّ ولأنه تقدم آنفاً قولهذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله } الحج 60، فهذا الآن أمر بالأخذ في وسائل النصر، فالآية نزلت قبل وقعة بدر لا محالة. { هُوَ ٱجْتَبَـٰكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَٰهِيمَ هُوَ سَمَّـٰكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَـٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ } جملة { هو اجتباكم } إن حملت على أنها واقعة موقع العلة لما أمروا به ابتداء من قوله تعالىيا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا } الحج 77 الخ، أي لأنه لما اجتباكم، كان حقيقاً بالشكر له بتلك الخصال المأمور بها.والاجتباء الاصطفاء والاختبار، أي هو اختاركم لتلقي دينه ونشره ونصره على معانديه. فيظهر أن هذا موجّه لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصالة ويشركهم فيه كل من جاء بعدهم بحكم اتّحاد الوصف في الأجيال كما هو الشأن في مخاطبات التشريع.وإن حمل قوله { هو اجتباكم } على معنى التفضيل على الأمم كان ملحوظاً فيه تفضيل مجموع الأمة على مجموع الأمم السابقة الراجع إلى تفضيل كل طبقة من هذه الأمة على الطبقة المماثلة لها من الأمم السالفة.وقد تقدم مثل هذين المحملين في قوله تعالىكنتم خير أمة أخرجت للناس }

السابقالتالي
2 3