الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلْمَطْلُوبُ }

أعقبت تضاعيف الحجج والمواعظ والإنذارات التي اشتملت عليها السورة مما فيه مقنع للعلم بأن إله الناس واحد وأن ما يُعبد من دونه باطل، أعقبت تلك كلها بمثَل جامع لوصف حال تلك المعبودات وعابديها.والخطاب بــــ { يا أيها الناس } للمشركين لأنهم المقصود بالردّ والزجر وبقرينة قوله { إن الذين تدعون } على قراءة الجمهور { تدعون } بتاء الخطاب.فالمراد بــــ { الناس } هنا المشركون على ما هو المصطلح الغالب في القرآن. ويجوز أن يكون المراد بــــ { الناس } جميعَ الناس من مسلمين ومشركين.وفي افتتاح السورة بــــ { يا أيها الناس } وتنهيتها بمثل ذلك شبه بردّ العجز على الصدر. ومما يزيده حسناً أن يكون العجز جامعاً لما في الصدر وما بَعده، حتى يكون كالنتيجة للاستدلال والخلاصةِ للخطبة والحَوصلة للدرس.وضرب المثل ذِكرهُ وبيانُه استعير الضرب للقول والذكر تشبيهاً بوضع الشيء بشدّة، أي ألقي إليكم مثَل. وتقدم بيانه عند قوله تعالىأن يضرب مثلاً ما } في سورة البقرة 26.وبني فعل { ضُرب } بصيغة النائب فلم يذكر له فاعل بعكس ما في المواضع الأخرى التي صُرّح فيها بفاعل ضَرْب المثل نحو قوله تعالىإن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما } فيسورة البقرة 26 وضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً } فيسورة النحل 75 وضرب الله مثلاً رجلاً } فيسورة الزمر 29وضرب الله مثلاً رجلين } فيسورة النحل 76. إذ أسند في تلك المواضع وغيرها ضَرب المثل إلى الله، ونحو قولهفلا تضربوا لله الأمثال } في سورة النحل 74. وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه } في سورة يس 78، إذ أسند الضرب إلى المشركين، لأنّ المقصود هنا نسج التركيب على إيجاز صالح لإفادة احتمالينأحدهما أن يقدّر الفاعل الله تعالى وأن يكون المثَل تشبيهاً تمثيلياً، أي أوضح الله تمثيلاً يوضح حال الأصنام في فرط العجز عن إيجاد أضعف المخلوقات كما هو مشاهد لكلّ أحد.والثاني أن يقدّر الفاعل المشركين ويكون المثَل بمعنى المُماثل، أي جعلوا أصنامهم مُماثلة لله تعالى في الإلهية.وصيغة الماضي في قوله { ضُرب } مستعملة في تقريب زَمن الماضي من الحال على الاحتمال الأول، نحو قوله تعالىلو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً } النساء 9، أي لو شارفوا أن يَتركوا، أي بعد الموت.وجملة { إن الذين تدعون من دون الله } إلى آخرها يجوز أن تكون بياناً لفعل { ضُرب } على الاحتمال الأول في التقدير، أي بين تمثيل عجيب.ويجوز أن تكون بياناً للفظ { مثَل } لما فيها من قوله { تدعون من دون الله } على الاحتمال الثاني.وفرع على ذلك المعنى من الإيجاز قوله { فاستمعوا له } لاسترعاء الأسماع إلى مُفاد هذا المثَل مما يبطل دعوى الشركة لله في الإلهية، أي استمعوا استماع تَدبّر.فصيغة الأمر في { استمعوا له } مستعملة في التحريض على الاحتمال الأول، وفي التعجيب على الاحتمال الثاني. وضمير { له } عائد على المثَل على الاحتمال الأول لأنّ المثل على ذلك الوجه من قبيل الألفاظ المسموعة، وعائدٌ على الضّرب المأخوذ من فعل { ضُرب } على الاحتمال الثاني على طريقة

السابقالتالي
2 3