الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي ٱلأَمْرِ وَٱدْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى مُّسْتَقِيمٍ }

هذا متصل في المعنى بقولهولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزقهم } الحج 34 الآية. وقد فُصل بين الكلامين ما اقتضى الحال استطراده من قولهوبشر المحسنين إن الله يدافع عن الذين آمنوا } الحج 37ــــ38 إلى هنا، فعاد الكلام إلى الغرض الذي في قولهولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله } الحج 34 الآية ليبنى عليه قوله { فلا ينازعنك في الأمر }. فهذا استدلال على توحيد الله تعالى بما سبق من الشرائع لقصد إبطال تعدد الآلهة، بأن الله ما جعل لأهل كلّ ملة سبقت إلا مَنسكاً واحداً يتقرّبون فيه إلى الله لأنّ المتقرّب إليه واحد. وقد جعل المشركون مناسك كثيرة فلكلّ صنم بيت يذبح فيه مثل الغبغب للعُزّى، قال النّابغة
وما هُريق على الأنصاب من جَسَد ............   
أي دم. وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالىولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكُروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا } الحج 34 كما تقدم آنفاً.فالجملة استئناف. والمناسبة ظاهرة ولذلك فُصلت الجملة ولم تعْطف كما عطفت نظيرتها المتقدمة.والمنسَك ــــ بفتح الميم وفتح السين ــــ اسم مكان النّسُك بضمهما كما تقدّم. وأصل النُّسك العبادة ويطلق على القربان، فالمراد بالنسك هنا مواضع الحج بخلاف المراد به في الآية السابقة فهو موضع القربان. والضمير في { ناسكوه } منصوب على نزع الخافض، أي ناسكون فيه.وفي «الموطأ» «أن قريشاً كانت تقف عند المَشعر الحرام بالمزدلفة بقُزح، وكانت العرب وغيرهم يقفون بعَرفة فكانوا يتجادلون يقول هؤلاء نحن أصوب، ويقول هؤلاء نحن أصوب، فقال الله تعالى { لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه } الآية، فهذا الجدال فيما نرى والله أعلم وقد سمعت ذلك من أهل العلم اهــــ.قال الباجي في «المنتقى» «وهو قول ربيعة». وهذا يقتضي أن أصحاب هذا التفسير يرون الآية قد نزلت بعد فرض الحج في الإسلام وقبل أن يمنع المشركون منه، أي نزلت في سنة تسع، والأظهر خلافه كما تقدم في أول السورة.وفرّع على هذا الاستدلال أنهم لم تبق لهم حجة ينازعون بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن التوحيد بعد شهادة الملل السابقة كلها، فالنهي ظاهره موجّه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن ما أعطيه من الحجج كافٍ في قطع منازعة معارضيه، فالمعارضون هم المقصود بالنهي، ولكن لما كان سبب نهيهم هو ما عند الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الحجج وُجه إليه النهي عن منازعتهم إياه كأنه قيل فلا تترك لهم ما ينازعونك به، وهو من باب قول العرب لا أعْرِفَنّك تفعل كذا، أي لا تَفْعل فأعرِفك، فجعل المتكلم النهي موجهاً إلى نفسه، والمراد نهي السامع عن أسبابه، وهو نهي للغير بطريق الكناية.

السابقالتالي
2