الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلأَرْضِ وَٱلْفُلْكَ تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ ٱلسَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى ٱلأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ }

هذا من نسق التذكير بنعم الله واقع موقع قولهألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة } الحج 63، فهو من عداد الامتنان والاستدلال، فكان كالتكرير للغرض، ولذلك فصلت الجملة ولم تعطف. وهذا تذكير بنعمة تسخير الحيوان وغيره. وفيه إدماج الاستدلال على انفراده بالتسخير. والتقدير فهو الرب الحق.وجملة { ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض } مستأنفة كجملةألم تر أن الله أنزل من السماء ماء } الحج 63.والخطاب هنا والاستفهام كلاهما كما في الآية السابقة.والتسخير تسهيل الانتفاع بدون مانع وهو يؤذن بصعوبة الانتفاع لولا ذلك التسخير، وأصله تسهيل الانتفاع بما فيه إرادة التمنع مثل تسخير الخادم وتسهيل استخدام الحيوان الداجن من الخيل، والإبل، والبقر، والغنم ونحوها بأن جعل الله فيها طبع الخوف من الإنسان مع تهيئتها للإلف بالإنسان، ثم أطلق على تسهيل الانتفاع بما في طبعه أو في حاله ما يُعذّر الانتفاع به لولا ما ألهم الله إليه الإنسان من وسائل التغلّب عليها بتعرف نواميسه وأحواله وحركاته وأوقات ظهوره، وبالاحتيال على تملكه مثل صيد الوحش ومغاصات اللؤلؤ والمرجان، ومثل آلات الحفر والنقر للمعادن، ومثل التشكيل في صنع الفلك والعَجل، ومثل التركيب والتصهير في صنع البواخر والمزجيات والصياغة، ومثل الإرشاد إلى ضبط أحوال المخلوقات العظيمة من الشمس والقمر والكواكب والأنهار والأودية والأنواء والليل والنهار، باعتبار كون تلك الأحوال تظهر على وجه الأرض، وما لا يحْصَى مما ينتفع به الإنسان مما على الأرض فكل ذلك داخل في معنى التسخير.وقد تقدم القول في التسخير آنفاً في هذه السورة. وتقدّم في سورة الأعراف وسورة إبراهيم وغيرهما، وفي كلامنا هنا زيادة إيضاح لمعنى التسخير.وجملة { تجري في البحر بأمره } في موضع الحال من { الفلك } وإنما خصّ هذا بالذكر لأن ذلك الجري في البحر هو مظهر التسخير إذ لولا الإلهام إلى صنعها على الصفة المعلومة لكان حظها من البحر الغَرق.وقوله { بأمره } هو أمر التكوين إذ جعل البحر صالحاً لحملها، وأوحى إلى نوح - عليه السلام - معرفة صنعها، ثم تتابع إلهام الصناع لزيادة اتقانها.والإمساك الشدّ، وهو ضد الإلقاء. وقد ضُمّن معنى المنع هنا وفي قوله تعالىإن الله يُمسك السماوات والأرض أن تزولا } فاطر 41 فيقدر حرف جر لتعدية فعل الإمساك بعد هذا التضمين فيقدر عن أو من.ومناسبة عطف إمساك السماوات على تسخير ما في الأرض وتسخير الفلك أن إمساك السماء عن أن تقع على الأرض ضرب من التسخير لما في عظمة المخلوقات السماوية من مقتضيات تغلّبها على المخلوقات الأرْضية وحطْمِها إياها لولا ما قدر الله تعالى لكل نوع منها من سُنن ونُظم تمنع من تسلط بعضها على بعض، كما أشار إليه قوله تعالى

السابقالتالي
2 3