الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ذٰلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ }

اسم الإشارة للفصل بين الكلامين لفتاً لأذهان السامعين إلى ما سيجيء من الكلام لأنّ ما بعده غير صالح لأن يكون خبراً عن اسم الإشارة. وقد تقدم نظيره عند قولهذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه } الحج 30.وجملة { ومن عاقب } الخ، معطوفة على جملةوالذين هاجروا في سبيل الله } الحج 58 الآية.والغرض منها التهيئة للجهاد والوعد بالنصر الذي أشير إليه سابقاً بقوله تعالىأذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير } الحج 39 إلى قولهولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز } الحج 40، فإنه قد جاء معترضاً في خلال النّعي على تكذيب المكذبين وكفرِهم النعمَ، فأكمل الغرض الأول بما فيه من انتقالات، ثمّ عطف الكلام إلى الغرض الذي جرت منه لمحة فعاد الكلام هنا إلى الوعد بنصر الله القوم المعتدى عليهم كما وعدهم بأن يدخلهم في الآخرة مدخلاً يرضونه.وجيء بإشارة الفصل للتنبيه على أهمية ما بعده.وما صْدَقُ مَن الموصولة العموم لقوله فيما سلفأذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } الحج 39، فنبه على أن القتال المأذون فيه هو قتال جَزاء على اعتداء سابق كما دلّ عليه أيضاً قولهبأنهم ظلموا } الحج 39.وتغيير أسلوب الجمع الذي في قولهأذن للذين يقاتلون } الحج 39 إلى أسلوب الإفراد في قوله { ومن عاقب } للإشارة إلى إرادة العموم من هذا الكلام ليكون بمنزلة القاعدة الكلية لسنّة من سنن الله تعالى في الأمم.ولما أتي في الصلة هنا بفعل { عاقَب } مع قصد شمول عموم الصلة للذين أُذِن لهم بأنهم ظُلموا عَلم السامع أنّ القتال المأذون لهم به قتال جزاء على ظلم سابق.وفي ذلك تحديد لقانون العقاب أن يكون مماثلاً للعدوان المجزى عليه، أي أن لا يكون أشدّ منه.وسُميّ اعتداء المشركين على المؤمنين عقاباً في قوله { بمثل ما عوقب به } لأن الذي دفع المعتدين إلى الاعتداء قصد العقاب على خروجهم عن دين الشرك ونبذ عبادة أصنامهم. ويعلم أنّ ذلك العقاب ظلم بقوله فيما مضىالذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله } الحج 40.ومعنى { بمثل ما عوقب به } المماثلةُ في الجنس فإن المشركين آذوا المسلمين وأرْغموهم على مغادرة موطنهم فيكون عقابهم على ذلك بإخراج من يمكنهم أن يخرجوه من ذلك الوطن. ولا يستطيعون ذلك إلا بالجهاد لأنّ المشركين كانوا أهل كثرة وكانوا مستعصمين ببلدهم فإلجاء من يمكن إلجاؤه إلى مفارقة وطنه، إما بالقتال فهو إخراج كامل، أو بالأسر.و { ثمّ } من قوله { ثم بغي عليه } عطف على جملة { ومن عاقب بمثل ما عوقب به } ، فــــ ثم للتراخي الرتبي فإن البغي عليه أهم من كونه عاقب بمثل ما عوقب به إذ كان مبدوءاً بالظلم كما يقال «البادىء أظلم». فكان المشركون محقوقين بأن يعاقبوا لأنهم بغوا على المسلمين.

السابقالتالي
2