{ ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَـٰرِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ } بدل من{ الذين يقاتلون } الحج 39، وفي إجراء هذه الصلة عليهم إيماء إلى أن المراد بالمقاتلة الأذى، وأعظمه إخراجهم من ديارهم كما قال تعالى{ والفتنة أشد من القتل } البقرة 191.و { بغير حق } حال من ضمير { أخرجوا } ، أي أخرجوا متلبسين بعدم الحق عليهم الموجِب إخراجهم، فإن للمرء حقاً في وطنه ومعاشرة قومه، وهذا الحق ثابت بالفطرة لأن من الفطرة أن الناشىء في أرض والمتولَّد بين قوم هو مساوٍ لجميع أهل ذلك الموطن في حق القرار في وطنهم وبين قومهم بالوجه الذي ثبت لجمهورهم في ذلك المكان من نشأة متقادمة أو قهر وغلبة لسكانه، كما قال عمر بن الخطاب «إنها لِبلاَدُهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام». ولا يزول ذلك الحق إلاّ بموجب قرره الشرّع أو العوائد قبل الشرع. كما قال زُهير
فإن الحق مقطعه ثلاث يمينٌ أو نِفار أو جَلاء
فمن ذلك في الشرائع التغريب والنّفي، ومن ذلك في قوانين أهل الجاهلية الجلاء والخَلع، وإنما يكون ذلك لاعتداء يعتديه المرء على قومه لا يجدون له مسلكاً من الردع غير ذلك.ولذلك قال تعالى { بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله } فإن إيمانهم بالله لا ينجر منه اعتداء على غيرهم إذ هو شيء قاصر على نفوسهم والإعلان به بالقول لا يضر بغيرهم. فالاعتداء عليهم بالإخراج من ديارهم لأجل ذلك ظلم بَواح واستخدام للقوة في تنفيذ الظلم.والاستثناء في قوله { إلا أن يقولوا ربنا الله } استثناء من عموم الحق، ولما كان المقصود من الحق حقاً يوجب الإخراج، أي الحقَّ عليهم، كان هذا الاستثناء مستعملاً على طريقة الاستعارة التهكمية، أي إن كان عليهم حق فهو أن يقولوا ربنا الله، فيستفاد من ذلك تأكيد عدم الحق عليهم بسبب استقراء ما قد يُتخيّل أنه حق عليهم. وهذا من تأكيد الشيء بما يوهم نقضه. ويسمى عند أهل البديع تأكيد المدح بما يشبه الذم، وشاهده قول النابغة
ولا عَيب فيهم غير أنّ سيوفهم بِهِنّ فُلول من قِراع الكتائب
وهذه الآية لا محالة نزلت بالمدينة. { وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَٰتٌ وَمَسَـٰجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ٱسمُ ٱللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ } اعتراض بين جملة{ أُذِن للذين يقاتلون } الحج 39 الخ وبين قوله{ الذين إن مكناهم في الأرض } الحج 41 الخ. فلما تضمنت جملة{ أذن للذين يقاتلون } الحج 39 الخ الإذن للمسلمين بدفاع المشركين عنهم أُتبع ذلك ببيان الحكمة في هذا الإذن بالدفاع، مع التنويه بهذا الدفاع، والمتولّين له بأنه دفاع عن الحق والدين ينتفع به جميع أهل أديان التوحيد من اليهود والنصارى والمسلمين، وليس هو دفاعاً لنفع المسلمين خاصة.