الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ }

هذا من جملة ما خاطب الله به إبراهيم - عليه السلام -.وقرأ ورش عن نافع، وقنبلٌ عن ابن كثير، وابن عامر، وأبو عَمرو ــــ بكسر لام ــــ { لِيَقْضوا }. وقرأه الباقون ــــ بسكون اللام ــــ. وهما لغتان في لام الأمر إذا وقعت بعد ثم، كما تقدم آنفاً في قوله تعالىثم ليقطع } الحج 15.وثم هنا عطفت جملة على جملة فهي للتراخي الرتبي لا الزمني فتفيد أنّ المعطوف بها أهم في الغرض المسوق إليه الكلام من المعطوف عليه. وذلك في الوفاء بالنذر والطواف بالبيت العتيق ظاهرٌ إذ هما نسكان أهم من نحرِ الهدايا، وقضاء التّفث محول على أمر مهم كما سنبينه.والتفث كلمة وقعت في القرآن وتردّد المفسرون في المراد منها. واضطرب علماء اللغة في معناها لعلّهم لم يعثروا عليها في كلام العرب المحتج به. قال الزجاج إن أهل اللغة لا يعلمون التفث إلاّ من التفسير، أي من أقوال المفسرين. فعَن ابن عُمر وابن عبّاس التفث مناسك الحجّ وأفعالُه كلها. قال ابن العربي لم صح عنهما لكان حجة الإحاطة باللغة. قلت رواه الطبري عنهما بأسانيد مقبولة. ونسبة الجصّاص إلى سعيد. وقال نفطويه وقطرب التفث هو الوسخ والدرَن. ورواه ابن وهب عن مالك بن أنس، واختاره أبو بكر بن العربي وأنشد قطرب لأمية بن أبي الصلت
حفّوا رؤوسهم لم يَحلقوا تفثاً ولم يسلّموا لهم قَمْلاً وصِئْبانا   
ويحتمل أن البيت مصنوع لأن أيمة اللّغة قالوا لم يَجىء في معنى التفث شعر يحتج به. قال نفطويه سألت أعرابياً ما معنى قوله { ثم ليقضوا تفثهم } ، فقال ما أفسّرُ القرآن ولكن نقول للرجل ما أتفثك، أي ما أدرَنَك.وعن أبي عبيدة التّفَث قصّ الأظفار والأخذُ من الشارب وكل ما يحرم على المُحرم، ومثله قوله عكرمة ومجاهد وربما زاد مجاهد مع ذلك رمي الجمار.وعن صاحب «العين» والفراء والزجاج التفث الرمي، والذبح، والحلق، وقصّ الأظفار والشارب وشعر الإبط. وهو قول الحسن ونسب إلى مالك بن أنس أيضاً.وعندي أن فعل { ليقضوا } ينادي على أن التفث عمل من أعمال الحج وليس وسَخاً ولا ظفراً ولا شعراً. ويؤيده ما روي عن ابن عمر وابن عباس آنفاً. وأن موقع ثمّ في عطف جملة الأمر على ما قبلها ينادي على معنى التراخي الرتبي فيقتضي أنّ المعطوف بــــ ثمّ أهم مما ذكر قبلها فإن أعمال الحج هي المهم في الإتيان إلى مكة، فلا جرم أن التفث هو من مناسك الحجّ وهذا الذي درج عليه الحريري في قوله في المقامة المكية «فلمّا قضيت بعون الله التفث، واستبحت الطيبَ والرفث، صادف موسم الخَيف، معمعان الصيف».وقوله { وليوفوا نذورهم } أي إن كانوا نذوراً أعمالاً زائدة على ما تقتضيه فريضة الحجّ مثل نذر طواف زائد أو اعتكاف في المسجد الحرام أو نسكاً أو إطعام فقير أو نحو ذلك.

السابقالتالي
2