الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّابِئِينَ وَٱلنَّصَارَىٰ وَٱلْمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }

فذلكة لما تقدم، لأنه لما اشتملت الآيات السابقة على بيان أحوال المترددين في قبول الإسلام كان ذلك مثاراً لأن يتساءل عن أحوال الفرق بعضهم مع بعض في مختلف الأديان، وأن يسأل عن الدين الحق لأن كل أمة تدَّعي أنها على الحق وغيرها على الباطل وتجادل في ذلك.فبينت هذه الآية أن الفصل بين أهل الأديان فيما اختصموا فيه يكون يوم القيامة، إذ لم تفدهم الحجج في الدنيا.وهذا الكلام بما فيه من إجمال هو جار مجرى التفويض، ومثله يكون كناية عن تصويب المتكلم طريقته وتخطئته طريقة خصمه، لأن مثل ذلك التفويض لله لا يكون إلا من الواثق بأنه على الحق وهو كقوله تعالىلنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير } الشورى 15 وذلك من قبيل الكناية التعريضية.وذِكر المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين تقدم في آية البقرة وآية العقود.وزاد في هذه الآية ذكر المجوس والمشركين، لأن الآيتين المتقدمتين كانتا في مساق بيان فضل التوحيد والإيمان بالله واليوم الآخر في كل زمان وفي كل أمة. وزيد في هذه السورة ذكر المجوس والمشركين لأن هذه الآية مسوقة لبيان التفويض إلى الله في الحكم بين أهل المِلل، فالمجوس والمشركون ليسوا من أهل الإيمان بالله واليوم الآخر.فأما المجوس فهم أهل دين يثبت إلهين إلهاً للخير، وإلهاً للشرّ، وهم أهل فارس. ثم هي تتشعب شعباً تأوي إلى هذين الأصلين. وأقدم النِحَل المجوسية أسسها كيومرث الذي هو أول ملك بفارس في أزمنة قديمة يظن أنها قبل زمن إبراهيم عليه السلام، ولذلك يلقب أيضاً بلقب جل شاه تفسيره ملك الأرض. غير أن ذلك ليس مضبوطاً بوجه علمي وكان عصرُ كيومرث يلقب زروان أي الأزل، فكان أصل المجوسية هم أهل الديانة المسماة الزروانية وهي تثبت إلهين هما يَزدَان وأهْرُمُن. قالوا كان يَزدان منفرداً بالوجود الأزلي، وأنه كان نُورانياً، وأنه بقي كذلك تسعة آلاف وتسعين سنة ثم حدث له خاطر في نفسه أنه لو حَدَث له منازع كيف يكون الأمر فنشأ من هذا الخاطر موجود جديد ظلماني سمي أهْرُمُن وهو إله الظلمة مطبوعاً على الشرّ والضرّ. وإلى هذا أشار أبو العلاء المعرّي بقوله في لزومياته
قال أناسٌ باطل زعمهُم فراقِبُوا الله ولاَ تَزعُمُنْ فكّرَ يَزدانُ على غِرّة فصيغ من تفكيره أهْرُمُن   
فحدث بين أهْرُمن وبين يزدان خلاف ومحاربة إلى الأبد. ثمّ نشأت على هذا الدّين نحل خُصّت بألقاب وهي متقاربة التعاليم أشهرها نحلة زَرَادَشْت الذي ظهر في القرن السادس قبل ميلاد المسيح، وبه اشتهرت المجوسية. وقد سمي إله الخير أهُورَا مَزْدَا أو أرمزد أو هرمز، وسمي إله الشرّ أهْرُمن، وجعل إله الخير نوراً، وإله الشر ظلمة.

السابقالتالي
2