الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى ٱلسَّمَآءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ }

موقع هذه الآية غامض، ومُفادها كذلك. ولنبدأ ببيان موقعها ثم نتبعه ببيان معناها فإن بين موقعها ومعناها اتصالاً.فيحتمل أن يكون موقعها استئنافاً ابتدائياً أريد به ذكر فريق ثالث غير الفريقين المتقدمين في قوله تعالىومن الناس من يجادل في الله بغير علم } الحج 8 الآية، وقولهومن الناس من يعبد الله على حرف } الحج 11. وهذا الفريق الثالث جماعة أسلموا واستبطأوا نصْر المسلمين فأيسوا منه وغاظهم تعجُّلهم للدخول في الإسلام وأن لم يتريثوا في ذلك وهؤلاء هم المنافقون.ويحتمل أن يكون موقعها تذييلاً لقولهومن الناس من يعبد الله على حرف } الحج 11 الآية بعد أن اعتُرض بين تلك الجملة وبين هاته بجمل أخرى فيكون المراد أن الفريق الذين يعبدون الله على حرف والمخبر عنهم بقولهخسر الدنيا والآخرة } الحج 11 هم قوم يظنون أن الله لا ينصرهم في الدنيا ولا في الآخرة إنْ بقُوا على الإسلام.فأما ظنهم انتفاء النصر في الدنيا فلأنهم قد أيسوا من النصر استبطاءً، وأما في الآخرة فلأنهم لا يؤمنون بالبعث ومن أجل هذا علق فعل { لن ينصره } بالمجرور بقوله { في الدنيا والآخرة } إيماء إلى كونه متعلق الخسران في قولهخسر الدنيا والآخرة } الحج 11. فإن عدم النصر خسران في الدنيا بحصول ضده، وفي الآخرة باستحالة وقوع الجزاء في الآخرة حسب اعتقاد كفرهم، وهؤلاء مشركون مترددون.ويترجح هذا الاحتمالُ بتغيير أسلوب الكلام، فلم يعطف بالواو كما عطف قولهومن الناس من يعبد الله } الحج 11 ولم تورد فيه جملة { ومن الناس } كما أوردت في ذكر الفريقين السابقين ويكون المقصود من الآية تهديد هذا الفريق. فيكون التعبير عن هذا الفريق بقوله { من كان يظن } الخ إظهاراً في مقام الإضمار فإن مقتضى الظاهر أن يؤتَى بضمير ذلك الفريق فيقالَ بعد قولهإن الله يفعل ما يريد } الحج 14، { فليمدد بسبب إلى السماء } الخ... عائداً الضميرُ المستتر في قوله { فليمدد } علىمَن يعبد الله على حرف } الحج 11.والعدول عن الإضمار إلى الإظهار لوجهين، أحدهما بُعد معاد الضمير، وثانيهما التنبيه على أنّ عبادته الله على حرف ناشئة عن ظنه أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة إن صمم على الاستمرار في اتباع الإسلام لأنه غير واثق بوعد النصر للمسلمين.وضمير النصب في { ينصره } عائد إلىمن يعبد الله على حرف } الحج 11 على كلا الاحتمالين.واسم { السماء } مرادٌ به المعنى المشهور على كلا الاحتمالين أيضاً أخذاً بما رواه القرطبي عن ابن زيد يعني عبد الرحمان بن زيد بن أسلم أنه قال في قوله تعالى { فليمدد بسبب إلى السماء } قال هي السماء المعروفة، يعني المُظِلة. فالمعنى فليَنُط حبلاً بالسماء مربوطاً به ثم يقطعه فيسقط من السماء فيتمزق كل ممزق فلا يغني عنه فعله شيئاً من إزالة غيظه.ومفعول { يقطع } محذوف لدلالة المقام عليه.

السابقالتالي
2