الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَزَكَرِيَّآ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْوَارِثِينَ } * { فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ }

كان أمر زكريا الذي أشار إليه قوله { إذ نادى ربه } آية من آيات الله في عنايته بأوليائه المنقطعين لعبادته فخصّ بالذكر لذلك. والقول في عطف { وزكريا } كالقول في نظائره السابقة.وجملة { رب لا تذرني فردا } مبيّنة لجملة { نادى ربه }. وأطلق الفرد على من لا ولد له تشبيهاً له بالمُنفرد الذي لا قرين له. قال تعالىوكلهم آتيه يوم القيامة فرداً } مريم 95، ويقال مثله الواحد للذي لا رفيق له، قال الحارث بن هشام
وعَلمتُ أني إن أُقاتل واحداً أقتل ولا يَضررُ عدوي مشهدي   
فشُبه من لا ولد بالفرد لأن الولد يصيّر أباه كالشفع لأنه كجزء منه. ولا يقال لذي الولد زوجٌ ولا شفع.وجملة { وأنت خير الوارثين } ثناء لتمهيد الإجابة، أي أنت الوارث الحق فاقض عليّ من صفتك العلية شيئاً. وقد شاع في الكتاب والسنة ذكر صفة من صفات الله عند سؤاله إعطاء ما هو من جنسها، كما قال أيوبوأنت أرحم الراحمين } الأنبياء 83، ودلّ ذكر ذلك على أنه سأل الولد لأجل أن يرثه كما في آية سورة مريم 6يرثني ويرث من آل يعقوب } حُذفت هاته الجملة لدلالة المحكي هنا عليها. والتقدير يرثني الإرثَ الذي لا يداني إرثَك عبادك، أي بقاء ما تركوه في الدنيا لتصرُّف قدرتك، أو يرثني مالي وعلمي وأنت ترث نفسي كلها بالمصير إليك مصيراً أبدياً فأرثك خير إرث لأنه أشمل وأبقى وأنت خير الوارثين في تحقق هذا الوصف. وإصلاح زوجه جعلها صالحة للحمل بعد أن كانت عاقراً.وتقدم ذكر زكرياء في سورة آل عمران وذكر زوجه في سورة مريم. { إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى ٱلْخَيْرَٰتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خـٰشِعِينَ } جملة واقعة موقع التعليل للجمل المتقدمة في الثناء على الأنبياء المذكورين، وما أوتوه من النصر، واستجابة الدعوات، والإنجاء من كيد الأعداء، وما تبع ذلك، ابتداءً من قوله تعالىولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء } الأنبياء 48. فضمائر الجمع عائدة إلى المذكورين. وحرف التأكيد مفيد معنى التعليل والتسبب، أي ما استحقّوا ما أوتوه إلا لمبادرتهم إلى مسالك الخير وجدّهم في تحصيلها.وأفاد فعل الكون أن ذلك كان دأبَهم وهجِّيراهم.والمسارعة مستعارة للحرص وصرف الهمة والجِدّ للخيرات، أي لفعلها، تشبيهاً للمداومة والاهتمام بمسارعة السائر إلى المكان المقصود الجادّ في مسالكه.والخيرات جمع خَيْر ــــ بفتح الخاء وسكون الياء ــــ وهو جمع بالألف والتاء على خلاف القياس فهو مثل سرادقات وحمامات واصطبلات. والخير ضدّ الشرّ، فهو ما فيه نفع. وأما قوله تعالىفيهن خيرات حِسان } الرحمٰن 70 فيحتمل أنه مثل هذا، ويحتمل أنه جمع خَيْرة ــــ بفتح فسكون ــــ الذي هو مخفف خَيِّره المشدّد الياء، وهي المرأة ذات الأخلاق الخيرية. وقد تقدم الكلام على { الخَيْرات } في قوله تعالىوأولئك لهم الخيرات } في سورة براءة 88. وعطف على ذلك أنهم يدْعُون الله رغبةً في ثوابه ورهبة من غضبه، كقوله تعالىيحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه } الزمر 9.والرغَب والرهَب ــــ بفتح ثانيهما ــــ مصدران من رغب ورهب. وهما وصف لمصدر { يدعوننا } لبيان نوع الدعاء بما هو أعم في جنسه، أو يقدر مضاف، أي ذوي رغب ورهب، فأقيم المضاف إليه مقامه فأخذ إعرابه.وذكر فعل الكون في قوله تعالى { وكانوا لنا خاشعين } مثل ذكره في قوله تعالى { كانوا يسارعون }.والخشوع خوف القلب بالتفكر دون اضطراب الأعضاء الظاهرة.