الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالُوۤاْ أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَـٰذَا بِآلِهَتِنَا يٰإِبْرَاهِيمُ } * { قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } * { فَرَجَعُوۤاْ إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوۤاْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ ٱلظَّالِمُونَ } * { ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَـٰؤُلاۤءِ يَنطِقُونَ } * { قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ } * { أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }

وقع هنا حذف جملة تقتضيها دلالة الاقتضاء. والتقدير فأتَوا به فقالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا.وقوله تعالى { بل } إبطال لأن يكون هو الفاعل لذلك، فنفى أن يكون فعَل ذلك، لأن بل تقتضي نفي ما دل على كلامهم من استفهامه.وقوله تعالى { فعله كبيرهم هذا } الخبر مستعمل في معنى التشكيك، أي لعله فعله كبيرهم إذ لم يقصد إبراهيم نسبة التحطيم إلى الصنم الأكبر لأنه لم يدع أنه شاهد ذلك ولكنه جاء بكلام يفيد ظنه بذلك حيث لم يَبق صحيحاً من الأصنام إلا الكبير. وفي تجويز أن يكون كبيرهم هذا الذي حطمهم إخطار دليل انتفاء تعدد الآلهة لأنه أوهمهم أن كبيرهم غضب من مشاركة تلك الأصنام له في المعبودية، وذلك تدرّج إلى دليل الوحدانية، فإبراهيم في إنكاره أن يكون هو الفاعل أراد إلزامهم الحجة على انتفاء ألوهية الصنم العظيم، وانتفاء ألوهية الأصنام المحطمة بطريق الأوْلى على نية أن يكر على ذلك كله بالإبطال ويوقنهم بأنه الذي حطم الأصنام وأنها لو كانت آلهة لدفعت عن أنفسها ولو كان كبيرهم كبير الآلهة لدفع عن حاشيته وحرفائه، ولذلك قال { فاسألوهم إن كانوا ينطقون } تهكُّماً بهم وتعريضاً بأن ما لا ينطق ولا يعرب عن نفسه غير أهل للآلهية.وشمل ضمير { فاسألوهم } جميع الأصنام ما تحطم منها وما بقي قائماً. والقوم وإن علموا أن الأصنام لم تكن تتكلم من قبل إلا أن إبراهيم أراد أن يقنعهم بأن حدثاً عظيماً مثل هذا يوجب أن ينطقوا بتعيين من فعلَه بهم. وهذا نظير استدلال علماء الكلام على دلالة المعجزة على صدق الرسول بأن الله لا يخرق عادة لتصديق الكاذب، فخلقه خارق العادة عند تحدّي الرسول دليل على أن الله أراد تصديقه.وأما ما روي في «الصحيح» عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " لم يكذب إبراهيم إلا ثلاثَ كَذبات ثنتين منه في ذات الله ــــ عزّ وجل ــــ قوله { إني سقيم } الصافات 89 وقوله { بل فعله كبيرهم هذا }. وبيْنَا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبّار من الجبابرة فقيل له إن ها هنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس فأرسل إليه فقال من هذه؟ قال أختي. فأتى سارة فقال يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك وأن هذا سألني فأخبرته أنكِ أختي فلا تكذبيني... " وساق الحديث.فمعناه أنه كذب في جوابه عن قول قومه { أأنت فعلت هذا بآلهتنا } حيث قال { بل فعله كبيرهم هذا } ، لأن بل إذا جاء بعد استفهام أفاد إبطال المستفهم عنه. فقولهم { أأنت فعلتَ هذا } سؤال عن كونه محطمَ الأصنام، فلما قال { بل } فقد نفى ذلك عن نفسه، وهو نفي مخالف للواقع ولاعتقاده فهو كذب.

السابقالتالي
2 3