الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } * { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَـٰذِهِ ٱلتَّمَاثِيلُ ٱلَّتِيۤ أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } * { قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ } * { قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } * { قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا بِٱلْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ ٱللاَّعِبِينَ } * { قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ٱلَّذِي فطَرَهُنَّ وَأَنَاْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ مِّنَ ٱلشَّاهِدِينَ } * { وَتَٱللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ }

أعقبت قصة موسى وهارون بقصة إبراهيم فيما أوحي إليه من مقاومة الشرك ووضوح الحجة على بطلانه، لأن إبراهيم كان هو المَثَل الأول قبل مجيء الإسلام في مقاومة الشرك إذ قاومه بالحجة وبالقوة وبإعلان التوحيد إذْ أقام للتوحيد هيكلاً بمكة هو الكعبة وبجَبل نابو من بلاد الكنعانيين حيث كانت مدينةٌ تسمى يومئذ لوزا ثم بنى بيت ايل بالقرب من موضع مدينة أورشليم في المكان الذي أقيم به هيكل سليمان من بعد، فكانت قصة إبراهيم مع قومه شاهداً على بطلان الشرك الذي كان مماثلاً لحال المشركين بمكة الذين جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - لقطع دابره. وفي ذكر قصة إبراهيم تورك على المشركين من أهل مكة إذ كانوا على الحالة التي نعاها جدُّهم إبراهيم على قومه، وكفى بذلك حجة عليهم. وأيضاً فإن شريعة إبراهيم أشهر شريعة بعد شريعة موسى.وتأكيد الخبر عنه بلام القَسم للوجه الذي بيناه آنفاً في تأكيد الخبر عن موسى وهارون، وهو تنزيل العرب في مخالفتهم لشريعة أبيهم إبراهيم منزلة المنكر لكون إبراهيم أوتي رشداً وهدياً.وكذلك الإخبار عن إيتاء الرشد إبراهيم بإسناد الإيتاء إلى ضمير الجلالة لمثل ما قرّر في قصة موسى وهارون للتنبيه على تفخيم ذلك الرشد الذي أوتيه.والرشد الهدى والرأي الحق، وضده الغي، وتقدم في قوله تعالىقد تبين الرشد من الغي } في سورة البقرة 256. وإضافة { الرشد } إلى ضمير إبراهيم من إضافة المصدر إلى مفعوله، أي الرشد الذي أرْشِده. وفائدة الإضافة هنا التنبيه على عظم شأن هذا الرشد، أي رشداً يليق به ولأن رشد إبراهيم قد كان مضرب الأمثال بين العرب وغيرهم، أي هو الذي علمتم سمعته التي طبقت الخَافقين فما ظنكم برشد أوتيه من جانب الله تعالى، فإن الإضافة لما كانت على معنى اللام كانت مفيدة للاختصاص فكأنه انفرد به. وفيه إيماء إلى أن إبراهيم كان قد انفرد بالهدى بين قومه.وزاده تنويهاً وتفخيماً تذييله بالجملة المعترضة قوله تعالى { وكنا به عالمين } أي آتيناه رشداً عظيماً على عِلم منا بإبراهيم، أي بكونه أهلاً لذلك الرشد، وهذا العلم الإلهي متعلق بالنفسية العظيمة التي كان بها محل ثناء الله تعالى عليه في مواضع كثيرة من قرآنه، أي علم من سريرته صفات قد رَضيها وأحمدَهَا فاستأهل بها اتخاذه خليلاً. وهذا كقوله تعالىولقد اخترناهم على علم على العالمين } الدخان 32 وقوله تعالىالله أعلم حيث يجعل رسالاته } الأنعام 124.وقوله { من قبل } أي من قبل أن نوتي موسى وهارون الفرقان وضياء وذكراً. ووجه ذكر هذه القبلية التنبيه على أنه ما وقع إيتاء الذكر موسى وهارون إلا لأن شريعتهما لم تزل معروفة مدروسة.و { إذ قال } ظرف لفِعل { آتينَا } أي كان إيتاؤه الرشد حينَ قال لأبيه وقومه { ما هذه التماثيل } الخ، فذلك هو الرشد الذي أوتيه، أي حينَ نزول الوحي إليه بالدَعوة إلى توحيد الله تعالى، فذلك أول ما بُدىء به من الوحي.

السابقالتالي
2 3 4