الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ }

{ أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَـٰهُمَا } قرأ الجمهور { أوَلم } ــــ بواو بعد الهمزة ــــ وهي واو العطف، فالجملة معطوفة عطف الاستدلال على الخلق الثاني بالخلق الأول وما فيه من العجائب. وقرأ ابن كثير { ألم يَر } بدون واو عطف. قال أبو شامة ولم تثبت الواو في مصاحف أهل مكة. قلت معناه أنها لم تثبت في المصحف الذي أرسل به عثمان إلى مكة فالتزمَ قراء مكة رِواية عدم الواو إلى أن قرأ بها ابن كثير، وأهملت غير قراءته.والاستفهام على كِلتا القراءتين إنكاري، توجه الإنكار على إهمالهم للنظر.والرؤيةُ تحتمل أن تكون بصرية وأن تكون علمية. والاستفهام صالح لأن يتوجه إلى كلتيهما لأن إهمال النظر في المشاهدات الدالة على علم ما ينقذ علمه من التورط في العقائد الضالة حقيق بالإنكار، وإنكار أعمال الفكر في دلالة الأشياء على لوازمها حتى لا يقع أحد في الضلال جديرٌ أيضاً بالإنكار أو بالتقرير المشوب بإنكار كما سنفصله.والرَّتق الاتصال والتلاصق بين أجزاء الشيء.والفَتق ضده، وهو الانفصال والتباعد بين الأجزاء.والإخبار عن السماوات والأرض بأنهما رَتق إخبار بالمصدر للمبالغة في حصول الصفة.ثم إن قوله تعالى { كانتا } يحتمل أن تكونا معاً رتقاً واحداً بأن تكون السماوات والأرض جسماً ملتئماً متصلاً. ويحتمل أن تكون كل سماء رتقاً على حدتها، والأرض رتقاً على حدتها وكذلك الاحتمال في قوله تعالى { ففتقناهما }.وإنما لم يقل نحو فصارتا فتقاً، لأن الرتق متمكن منهما أشدّ تمكن كما قلنا ليستدل به على عظيم القدرة في فتقهما، ولدلالة الفعل على حدثان الفتق إيماء إلى حدوث الموجودات كلها وأن ليس منها أزلي.والرتق يحتمل أن يراد به معانٍ تنشأ على محتملاتها معانٍ في الفتق، فإن اعتبرنا الرؤية بصرية فالرتقُ المشاهد هو ما يشاهده الرائي من عدم تخلل شيء بين أجزاء السماوات وبين أجزاء الأرض، والفتقُ هو ما يشاهده الرائي من ضد ذلك حين يرى المطر نازلاً من السماء ويرى البرْق يلعج منها والصواعق تسقط منها فذلك فتقها، وحين يرى انشقاق الأرض بماء المطر وانبثاق النبات والشجر منها بعد جفافها، وكل ذلك مشاهد مرئي دال على تصرف الخالق، وفي هذا المعنى جمع بين العبرة والمنة، كما قال ابن عطية أي هو عبرة دلالةٍ على عظم القدرة وتقريب لكيفية إحياء الموتى كما قال تعالىفأحيينا به الأرض بعد موتها } في سورة فاطر 9.وإن اعتبرنا الرؤية علمية احتمل أن يراد بالرتق مثل ما أريد به على اعتبار كون الرؤية بصرية، وكان الاستفهام أيضاً إنكارياً متوجهاً إلى إهمالهم التدبر في المشاهدات. واحتمل أن يراد بالرتق معاننٍ غيرُ مشاهدةٍ ولكنها مما ينبغي طلب العلم به لما فيه من الدلائل على عظم القدرة وعلى الوحدانية، فيحتمل أن يراد بالرتق والفتق حقيقتاهما، أي الاتصال والانفصال.

السابقالتالي
2 3