كثر في القرآن الاستدلال بإتقان نظام خلق السماوات والأرض وما بينهما على أن لله حكمة في خلق المخلوقات وخلق نُظمها وسُننها وفِطَرها، بحيث تكون أحوالها وآثارها وعلاقة بعضها ببعض متناسبة مُجارية لما تقتضيه الحكمة ولذلك قال تعالى في سورة الحجر 85{ وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق } وقد بيّنا هنالك كيفية ملابسة الحق لكل أصناف المخلوقات وأنواعها بما يغني عن إعادته هنا.وكثر أن ينبه القرآن العقول إلى الحكمة التي اقتضت المناسبة بين خلق ما في السماوات والأرض ملتبساً بالحق، وبين جزاء المكلفين على أعمالهم على القانون الذي أقامته الشرائع لهم في مختلف أجيالهم وعصورهم وبلدانهم إلى أن عَمّتهم الشريعة العامة الخاتمة شريعة الإسلام، وإلى الحكمة التي اقتضت تكوين حياة أبدية تلقى فيها النفوس جزاءَ ما قدمته في هذه الحياة الزائلة جزاء وفاقاً.فلذلك كثر أن تُعقب الآياتُ المبينة لما في الخلق من الحقّ بالآيات التي تذكُر الجزاء والحساب، والعكس، كقوله تعالى{ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون } في آخر سورة المؤمنين 115، وقوله تعالى{ وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل } آخر الحجر 85، وقوله تعالى{ إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار } في سورة ص 26ــــ28، وقوله تعالى{ أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين } في سورة الدخان 37ــــ40، وقوله تعالى{ ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون } في سورة الأحقاف 3 إلى غير هذه من الآيات.فكذلك هذه الآية عقب بها ذكر القوم المهلَكين، والمقصود من ذلك إيقاظ العقول إلى الاستدلال بما في خلق السماوات والأرض وما بينهما من دقائق المناسبات وإعطاء كلّ مخلوق ما به قِوامه، فإذا كانت تلك سنةَ الله في خلق العوالم ظَرفِها ومظروفها، استدل بذلك على أن تلك السنة لا تتخلف في ترتب المسببات على أسبابها فيما يأتيه جنس المكلفين من الأعمال، فإذا ما لاح لهم تخلف سبب عن سببه أيقنوا أنه تخلف مؤقت فإذا علمهم الله على لسان شرائعه بأنه ادخر الجزاء الكامل على الأعمال إلى يوم آخر آمنوا به، وإذا علّمهم أنهم لا يفوتون ذلك بالموت بل إن لهم حياةً آخِرة وأن الله باعثهم بعد الموت أيقنوا بها، وإذا علمهم أنه ربما عجل لهم بعض الجزاء في الحياة الدنيا أيقنوا به.