الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِن بَعْدِ ٱلذِّكْرِ أَنَّ ٱلأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّالِحُونَ } * { إِنَّ فِي هَـٰذَا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ }

إن كان المراد بالأرض أرض الجنة كما في قوله تعالى في سورة الزمر 73وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً } إلى قوله تعالىوقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء } سورة الزمر 74 فمناسبة ذكر هذه الآية عقب التي تقدمتها ظاهرة. ولها ارتباط بقوله تعالىأفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } الأنبياء 44.وإن كان المراد أرضاً من الدنيا، أي مَصيرَها بيدِ عباد الله الصالحين كانت هذه الآية مسوقة لوعد المؤمنين بميراث الأرض التي لَقُوا فيها الأذَى، وهي أرض مكة وما حولها، فتكون بشارة بصلاح حالهم في الدنيا بعد بشارتهم بحسن مآلهم في الآخرة على حد قوله تعالىمن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } النحل 97.على أن في إطلاق اسم الأرض ما يصلح لإرادة أن سلطان العالم سيكون بيد المسلمين ما استقاموا على الإيمان والصلاح. وقد صدق الله وعده في الحالين وعلى الاحتمالين. وفي حديث أبي داوود والترمذي عن ثَوبان قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إنّ الله زوَى لي الأرض فرأيت مشارقَها ومغاربَها وأن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها ". وقرأ الجمهور { في الزبور } بصيغة الإفراد وهو اسم للمزبور، أي المكتوب، فعول بمعنى مفعول، مثل ناقة حَلوب ورَكوب. وقرأ حمزة بصيغة الجمع { زُبور } بوزن فعول جمع زِبْر بكسر فسكون أي مزبور، فوزنه مثل قِشر وقُشور، أي في الكتب.فعلى قراءة الجمهور فو غالب في الإطلاق على كتاب داوود قال تعالىوآتينا داوود زبوراً } في سورة النساء 163 وفي سورة الإسراء 55، فيكون تخصيص هذا الوعد بكتاب داوود لأنه لم يذكر وعْد عامّ للصالحين بهذا الإرث في الكتب السماوية قبله. وما ورد في التوراة فيما حكاه القرآن من قول موسى - عليه السلام -إن الأرض لله يُورثها من يشاء من عباده } الأعراف 128 فذلك خاص بأرض المقدس وببني إسرائيل.والزبور كتاب داوود وهو مبثوث في الكتاب المسمى بالمزامير من كتب اليهود. ولم أذكر الآن الجملة التي تضمنت هذا الوعد في المزامير. ووجدت في محاضرة للإيطالي المستعرب فويدو أن نص هذا الوعد من الزبور باللغة العبرية هكذا «صديقين يرشون أرص» بشين معجمة في «يرشون» وبصاد مهملة في «أرص»، أي الصديقون يرثون الأرض. والمقصود الشهادة على هذا الوعد من الكتب السالفة وذلك قبل أن يجيء مِثل هذا الوعد في القرآن في سورة النور 55 في قوله تعالىوعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم } وعلى قراءة حمزة أن هذا الوعد تكرر في الكتب لِفِرق من العباد الصالحين.

السابقالتالي
2