الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يَوْمَ نَطْوِي ٱلسَّمَآءَ كَطَيِّ ٱلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ }

جملة مستأنفة قصد منها إعادة ذكر البعث والاستدلال على وقوعه وإمكانِه إبطالاً لإحالة المشركين وقوعه بعلة أن الأجساد التي يدّعي بعثها قد انتابها الفناء العظيمقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد } السجدة 10 والمناسبة في هذا الانتقال هو ما جرى من ذكر الحشر والعقاب والثواب من قوله تعالىلهم فيها زفير } الأنبياء 100 وقوله تعالىإن الذين سبقت لهم منا الحسنى } الأنبياء 101 الآية.وقد رُتّب نظم الجملة على التقديم والتأخير لأغراض بليغة. وأصل الجملة نعيد الخلق كما بدأنا أولَ خلق يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب وعْداً علينا. فحُوّل النظم فقدم الظرف بادىء ذي بَدء للتشويق إلى متعلقه، ولما في الجملة التي أضيف إليها الظرف من الغرابة والطباقِ إذ جعل ابتداءُ خلق جديد وهو البعث مؤقتاً بوقت نقض خَلق قديم وهو طي السماء.وقدم { كما بدأنا أول خلق } وهو حال من الضمير المنصوب في { نعيده } للتعجيل بإيراد الدليل قبل الدعوى لتتمكن في النفس فضلَ تمكّن. وكل ذلك وجوه للاهتمام بتحقيق وقوع البعث، فليس قوله { يوم نطوي السماء } متعلقاً بما قبله من قوله تعالىوتتلقاهم الملائكة } الأنبياء 103.وعقب ذلك بما يفيد تحقق حصول البعث من كونه وعداً على الله بتضمين الوعد معنى الإيجاب، فعدي بحرف على في قوله تعالى { وعداً علينا } أي حقاً واجباً.وجملة { إنا كنا فاعلين } مؤكّدة بحرف التوكيد لتنزيل المخاطبين منزلة من ينكر قدرة الله لأنهم لما نَفَوا البعث بعلة تعذر إعادة الأجسام بعد فنائها فقد لزمهم إحالتهم ذلك في جانب قدرة الله.والمراد بقوله { فاعلين } أنه الفاعل لِما وُعد به، أي القادر. والمعنى إنا كنا قادرين على ذلك.وفي ذكر فعل الكون إفادة أن قدرته قد تحققت بما دل عليه دليل قوله { كما بدأنا أول خلق نعيده }.والطّيُّ رَدُّ بعض أجزاء الجسم الليِّن المطلوق على بعْضه الآخر، وضدّه النشر.والسجل بكسر السين وكسر الجيم هنا، وفيه لغات. يطلق على الورقة التي يكتب فيها، ويُطلق على كاتب الصحيفة، ولعله تسمية على تقدير مضاف محذوف، أي صاحب السجل، وقيل سجل اسم ملك في السماء ترفع إليه صحائف أعمال العباد فيحفظها.ولا يحسن حملهُ هنا على معنى الصحيفة لأنه لا يلائم إضافة الطيّ إليه ولا إردافه لقوله { للكتاب } أو { للكتب } ، ولا حملهُ على معنى المَلَك الموكَل بصحائف الأعمال لأنه لم يكن مشهوراً فكيف يشبه بفعله. فالوجه أن يراد بالسجل الكاتب الذي يكتب الصحيفة ثم يطويها عند انتهاء كتابتها، وذلك عمل معروف. فالتشبيه بعمله رشيق.وقرأ الجمهور { للكتاب } بصيغة الإفراد، وقرأه حفص وحمزة والكسائي وخلف { للكُتب } ــــ بضم الكاف وضم التاء ــــ بصيغة الجمع. ولما كان تعريف السجل وتعريفُ الكتاب تعريفَ جنس استوى في المعرّف الإفرادُ والجمعُ. فأما قراءتهما بصيغة الإفراد ففيها محسن مراعاة النظير في الصيغة، وأما قراءة الكتب بصيغة الجمع مع كون السِجل مفرداً ففيها حسن التفنن بالتضاد.

السابقالتالي
2