الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ فَٱذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي ٱلْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ وَٱنظُرْ إِلَىٰ إِلَـٰهِكَ ٱلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي ٱلْيَمِّ نَسْفاً }

لم يزد موسى في عقاب السامريّ على أن خلعه من الأمّة، إما لأنّه لم يكن من أنفسهم فلم يكن بالذي تجري عليه أحكام الشريعة، وإما لأنّ موسى أعلم بأن السامري لا يرجى صلاحه، فيكون ممن حقّت عليه كلمة العذاب، مثل الذين قال الله تعالى فيهمإن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } يونس 96، 97، ويكون قد أطلع الله موسى على ذلك بوحي أو إلهام، مثل الذي قاتل قتالاً شديداً مع المسلمين، وقال - النبي صلى الله عليه وسلم - " أما إنه من أهل النّار " ، ومثل المنافقين الذين أعلم الله بهم محمداً صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم حذيفة بن اليمان ببعضهم.فقوله { فَاذْهَبْ } الأظهر أنه أمر له بالانصراف والخروج من وسط الأمّة، ويجوز أن يكون كلمة زجر، كقوله تعالىقال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنّم جزاؤكم } الإسراء 63، وكقول الشاعر مما أنشده سيبويه في «كتابه» ولم يعزه
فاليوم قَرّبْتَ تهجونا وتشتمنا فاذْهَبْ فما وبك لأيام من عجب   
ويجوز أن يكون مراداً به عدم الاكتراث بحاله كقول النبهاني من شعراء «الحماسة»
فإن كنتَ سيدنا سُدْتَنا وإن كنت للخَال فاذْهَب فَخَلْ   
أما قوله { فَإنَّ لَكَ في الحَيَاةِ أن تَقُولَ لا مِساس وإنَّ لكَ مَوْعِداً لَن تُخْلفَهُ } فهو إخبار بما عاقبه الله به في الدنيا والآخرة، فجعل حَظه في حياته أن يقول لا مِساس، أي سلبه الله الأُنس الذي في طبع الإنسان فعوضه به هوساً ووسواساً وتوحشاً، فأصبح متباعداً عن مخالطة الناس، عائشاً وحده لا يترك أحداً يقترب منه، فإذا لقيه إنسان قال له لا مساس، يخشى أن يمسه، أي لا تمسني ولا أمسك، أو أراد لا اقتراب مني، فإن المس يطلق على الاقتراب كقولهولا تمسوها بسوء } هود 64، وهذا أنسب بصيغة المفاعلة، أي مقاربة بيننا، فكان يقول ذلك، وهذه حالة فظيعة أصبح بها سخرية.ومِساس ــــ بكسر الميم ــــ في قراءة جميع القراء وهو مصدر ماسّهُ بمعنى مسه، و لا نافية للجنس، و { مساس } اسمها مبني على الفتح.وقوله { وإنَّ لكَ مَوعِداً } اللام في { لَكَ } استعارة تهكمية، كقوله تعالىوإن أسأتم فلها } الإسراء 7 أي فعليها. وتوعده بعذاب الآخرة فجعله موعداً له، أي موعد الحشر والعذابِ، فالموعد مصدر، أي وعد لا يخلفوعد الله لا يخلف الله وعده } الروم 6. وهنا توعُّد بعذاب الآخرة.وقرأ الجمهور { لن تُخلَفه } بفتح اللاّم مبنيّاً للمجهول للعلم بفاعله، وهو الله تعالى، أي لا يؤخره الله عنك، فاستعير الإخلاف للتأخير لمناسبة الموعد.وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب بكسر اللام مضارع أخْلَف وهمزته للوجدان. يقال أخلف الوعد إذا وجده مُخْلَفاً، وإما على جعل السامريّ هو الذي بيده إخلاف الوعد وأنه لا يخلفه، وذلك على طريق التهكم تبعاً للتهكم الذي أفاده لام الملك.

السابقالتالي
2